وجاء في الخطبة الاولى :
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النّور: 55]. صدق الله العظيم.
أملُ المستضعفين
في الخامس عشر من هذا الشَّهر المبارك، شهر شعبان، شهر رسول الله (ص)، مرَّت علينا ذكرى الولادة العطرة لخاتم السّلسلة المباركة لأئمَّة أهل البيت (ع)، القائم بالحقّ، والعدل المنتظر، الإمام محمَّد بن الحسن العسكري، صاحب العصر والزّمان، أرواحنا لمقدمه الفداء.
هذا الإمام الَّذي تأتي ذكراه كلّ سنة لتحمل معها الأمل إلى نفوس المظلومين والمقهورين والمعذَّبين والمستضعفين، ولتذكّرهم بأنَّ المستقبل لن يكون أبداً للطّغاة والمستكبرين، ولا للّذين يستبيحون دماء النّاس وأعراضهم، أو يعيثون في الأرض فساداً، بل سيكون، ولو بعد حين، لعباد الله الصّالحين، لدعاة الحقّ والعدل والحريّة، وللمستضعفين.
وهذا الأمل الذي نتحدّث عنه هو أمل نؤمن بأنَّه لا يندرج في خانة الأماني الموهومة، ولا أحلام اليقظة، بل هو يأتي من إيماننا بوعد الله سبحانه الَّذي وعد به عباده، والَّذي لا يخلف وعده لعباده، والَّذي جاء في الآية التي تلوناها: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}.
وفي قوله سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[الأنبياء: 105]، والآية الّتي تقول: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص: 5].
وفيما أشارت إليه الأحاديث الواردة عن رسول الله (ص)، فقد ورد عنه (ص): “لا تذهب الدُّنْيا، حتَّى يبعثَ اللهُ رجلاً من أهلِ بيتي، يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي، يَمْلَؤُهَا قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مَلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا”.
وفي حديث آخر: “القائِمُ مِن وُلدِي، اسمُهُ اسمي، وكُنْيَتُهُ كُنيَتي، وشَمائِلُهُ شَمائِلي، وسُنَّتُهُ سُنَّتي، يُقيمُ النّاسَ عَلى مِلَّتي وشَريعَتي، ويَدعوهُم إلى كِتابِ رَبّي عزَّ وجلَّ، مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أطاعَني، ومَنْ عَصاهُ فَقَدْ عَصَاني”.
وفي حديث وارد عن الإمام الحسن العسكريّ (ع) أشار فيه إلى المهدي (عج)، قال (ع): “ابْنِي مُحَمَّدٌ هُوَ الْإِمَامُ وَالْحُجَّةُ بَعْدِي، فَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. أَمَا إِنَّ لَهُ غَيْبَةً يَحَارُ فِيهَا الْجَاهِلُونَ، وَيَهْلِكُ فِيهَا الْمُبْطِلُونَ، وَيَكْذِبُ فِيهَا الْوَقَّاتُونَ”.
إذاً، إيماننا بالإمام المهديّ (عج) ينطلق من إيماننا بصدق وعود الله لنا، وما ورد عن رسول الله (ص) الّذي أشار الله تعالى إلى أنه ينطق بما يوحى به إليه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النّجم: 3 -4].
وإذا كان هناك من قد يثير علامات استفهام حول إمكانيّة حياته طوال هذه الفترة الزمنيّة، وبعيداً من الأعين، فإنَّنا نقول له إنَّ الله قادر على أن يحييه طوال هذه الفترة، وأن يؤمّن له سبل الرعاية إلى أجل يحدّده، بناءً على حكمته وتقديره: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ}[فاطر: 17]، وهو من بيده الأمر وعلى كلّ شيء قدير.
مسؤوليَّتُنا في عصرِ الغيبة
ونحن اليوم، وفي أجواء هذه الولادة المباركة، لا بدَّ من أن نطرح على أنفسنا السّؤال: ما الدَّور المطلوب منّا في المرحلة الَّتي نعيشها، وإلى أن ياذن الله له بالخروج؟ هل نكتفي بانتظار خروجه، كما يعمد إلى ذلك البعض، بأن نتَّكل عليه ونترك الأمر له، ونرى أنفسنا غير معنيّين بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإقامة العدل، ومواجهة الظّلم والانحراف والفساد، ما دام غائباً، ونكتفي عندما نرى فساداً وظلماً وانحرافاً وطغياناً، بأن نقلّب كفّاً على كفّ، وندعو له بتعجيل الفرج، أو أن ننشغل كما ينشغل الكثيرون منّا بالتفتيش عن علامة هنا أو هناك تؤشّر إلى وقت الظّهور ونستغرق فيها، وهو ما دعانا الأئمَّة (ع) إلى عدم الوقوع فيه؟! فقد ورد عن الإمام الباقر (ع) في كلامٍ لأحد أصحابه حين سأله: “هل لهذا الأمر وقت؟”، أي وقت لتحديد الخروج، فقال (ع): “كذب الوقَّاتون، كذب الوقَّاتون، كذب الوقَّاتون”.
وعن الإمام الصَّادق (ع): “كذب الموقّتون، ما وقّتنا فيما مضى، ولا نوقّت فيما يستقبل”. فكلّ توقيت لخروجه لا أساس له، حتى لو تحقَّقت علامة من العلامات وثبتت، فقد لا تكون هذه العلامة في هذا الزّمن، بل قد تكون في زمن آخر.
إنَّ علينا أن نعي أنَّ أمر خروج الإمام (عج) هو بيد الله الّذي لم يطلع أحداً عليه، لا من ناحية الزمان ولا المكان، بل أبقاه سرّاً إلى حين تهيئة الظّروف لخروجه، والزَّمن المناسب له، والأمَّة الجديرة به، ولن نحتاج إلى جهد كبير حتى نعرف بخروجه، وسيدلّ هو على نفسه، وستكون العلامات بيّنةً وواضحةً وجليَّة.
العملُ لتحقيقِ العدل
إنَّ ما ينبغي علينا القيام به في هذه المرحلة، هو أن نبقى ندعو له بالفرج، وأن نكون حاضرين عند خروجه، لنكون عندها من أعوانه وأنصاره لا المتخلّفين عنه، لكنَّ ذلك لا بدَّ أن يقرن بالعمل لتحقيق الهدف الَّذي أشار إليه رسول الله (ص)، عندما تحدَّث عنه وقال إنَّه “يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، بَعْدَما مَلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا”، هذا الهدف الَّذي لأجله أرسل الله عزَّ وجلَّ الرسل والأنبياء، والَّذي يأتي الإمام ليضع لَبِنَتَهُ الأخيرة، مكملاً كلَّ الجهود التي بذلت لتحقيقه، وهو ما أشار إليه الله عزَّ وجلَّ عندما قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ{، والَّذي دعا إليه الإسلام، وهو ما جاء في قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ{، وفي قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}، والميزان هو ميزان العدل، وفي الحديث: “عدلُ ساعةٍ خيرٌ منْ عبادةِ سبعينَ سنةً”.
والعدل الَّذي يدعو إليه الله عزَّ وجلَّ، ودعا إليه الإسلام، لا يقف عند حدود المسلمين، بل هو القاعدة الأساس في التَّعامل مع غيرهم ومع من نختلف معهم في الدّين أو المذهب، وحتَّى مع من نعاديهم، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وقد ورد في ذلك “أنَّ الله عزَّ وجلَّ أَوْحَى إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِه فِي مَمْلَكَةِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَّارِينَ، أَنِ ائْتِ هَذَا الْجَبَّارَ فَقُلْ لَه إِنَّنِي لَمْ أَسْتَعْمِلْكَ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ واتِّخَاذِ الأَمْوَالِ، وإِنَّمَا اسْتَعْمَلْتُكَ لِتَكُفَّ عَنِّي أَصْوَاتَ الْمَظْلُومِينَ، فَإِنِّي لَنْ أَدَعْ ظُلَامَتَهُمْ وإِنْ كَانُوا كُفَّاراً”.
إذاً، نحن معنيّون في ذكرى ولادته بأن نجدّد العهد لإمامنا، بأن نعمل بما سيدعو إليه ويعمل على تحقيقه، بأن نكون عادلين مع ربّنا، نؤدّي حقّه علينا، بأن نشكره ونعظّمه ولا نعصيه، وعادلين مع أنفسنا، بأن نقيها من كلّ ما يسيء إليها في الدنيا، ومن عذاب الآخرة، وعادلين في بيوتنا؛ الزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها، ومع أولادنا وأرحامنا وجيراننا، ومع الناس جميعاً، القريب منهم والبعيد، والعدوّ منهم والصَّديق، وأن يكون ذلك هو المقياس الّذي به نقيس به كلماتنا ومشاعرنا، وفي تأييدنا للأشخاص والجهات والمواقع أو رفضنا لها، وأن نقف مع كلّ قضيّة عدل، ومع كلّ من يحمل لواءه، حتى لو كان ذلك على حسابنا الشَّخصيّ، وأن نكون في مواجهة الظّلم بكلّ عناوينه، حتَّى لو كان الظّالم من طائفتنا أو مذهبنا أو وطننا أو موقعنا السياسيّ، أن لا نكون حياديّين بين الحقّ والباطل، وبين الظّلم والعدل، وبين الصَّلاح والفساد، لأنَّ الحياديّين هم شركاء للظّالمين والطّغاة والمستكبرين، الَّذين يقودونهم مستغلّين صمتهم وسكوتهم وتخاذلهم.
الدّعاءُ بتعجيلِ الفرج
لذلك، أيّها الأحبّة، عندما ندعو الله عزَّ وجلَّ إلى أن يعجّل الفرج بخروجه علينا، علينا أن نتأكَّد من أنّنا جادّون بحمل رسالته، وألَّا يكون حالنا في ذلك كمن كان يدعو إلى ظهور الإمام ليكون معه، ثمَّ رأى الإمام في المنام، ولما دعاه أن يتنازل عن بعض ما يملك من عقاراته وعن موقعه، لأنَّ في ذلك ظلماً للآخرين وتجاوزاً عن حقوقهم، حمد الله أنَّه كان في المنام، بل بأن ننتظره في كلّ السّاحات الَّتي يريدنا أن نكون فيها؛ ساحات الحقّ والعدل، وفي مواجهة الظّلم والطّغيان والفساد.
وأن ندعو الله دائماً من كلّ قلوبنا، أن نحظى برؤيته والانضواء تحت رايته، وأن نكون من جنوده وأنصاره والمدافعين عنه، ونقول:
“اللَّهُمَّ أَرِنِي الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ، وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ، وَاكْحُلْ نَاظِرِي بِنَظْرَةٍ مِنِّي إِلَيْهِ”، “وَعَجِّلْ فَرَجَهُ، وَسَهِّلْ مَخْرَجَهُ، وَأَوْسِعْ مَنْهَجَهُ، وَاسْلُكْ بِي مَحَجَّتَهُ، وَأَنْفِذْ أَمْرَهُ، وَاشْدُدْ أَزْرَهُ، وَاعْمُرِ اللَّهُمَّ بِهِ بِلادَكَ، وَأحْيِ بِهِ عِبادَكَ، بِرَحْمَتِـكَ يَـا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ”.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بالوصيَّة التي أرسلها الإمام المهدي (عج) إلى أحد العلماء في عصره، وهو الشَّيخ ابن بابويه، وأمره أن يرسلها إلى شيعته، فقال له: “أُوصِيكَ بِمَغْفِرَةِ الذَّنْبِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَمُواسَاةِ الْإِخْوَانِ، وَالسَّعْيِ فِي حَوَائِجِهِمْ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْحِلْمِ عِندَ الْجَهْلِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَالتَّثَبُّتِ فِي الْأُمُورِ، وَالتَّعَهُّدِ لِلْقُرْآنِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.. وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ كُلِّهَا، وَعَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ (ص) أَوْصَى عَلِيًّا (ع) فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، عَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، عَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، عَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَاعْمَلْ بِوَصِيَّتِي، وَأْمُرْ جَمِيعَ شِيعَتِي بِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ حَتَّى يَعْمَلُوا عَلَيْهِ.. وَعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ، وَأْمُرْ جَمِيعَ شِيعَتِي بِالصَّبْرِ: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.. وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَعَلَى جَمِيعِ شِيعَتِنا وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.. وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ”.
هذه وصيَّة الإمام (عج)، نسأل الله أن يوفّقنا للأخذ بها، لنعبّر بذلك عن حقيقة ولائنا لهذا الإمام وصدق انتمائنا إليه، حيث الولاية له لن تكون بالمشاعر والعواطف، بل بالعمل بما جاء به، وبذلك نكون أكثر قدرة على مواجهة التحدّيات.
في انتظارِ معالجةِ الأزمات
والبداية من ولادة الحكومة الَّتي كان ينتظرها اللبنانيون لتعالج الأزمات التي يعانونها، إن على الصَّعيد المعيشي والحياتي، أو ما يتهدَّدهم على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني، واستعادة المودعين لأموالهم، وإعمار ما تهدَّم بفعل العدوان الصهيوني، أو في العمل لمواجهة التحدّيات الَّتي لا تزال تعصف بهذا البلد، بفعل العدوان الصّهيونيّ، وتلكّؤ العدوّ عن الانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانيَّة، أو ما يجري على الحدود الشَّرقيَّة، أو على صعيد المنطقة والعالم، والَّذي ستكون له التداعيات على هذا البلد.
إنَّنا نريد لهذه الحكومة أن تكون على مستوى تطلّعات اللّبنانيّين وآمالهم، من خلال إيفائها بالوعود التي قطعتها على نفسها، بأن تكون كما أعلنت عن نفسها وجعلته شعاراً لها، حكومة إصلاح وإنقاذ، أن تكون حكومة إصلاح حقيقيّ وجادّ، على الصَّعيد السياسي والإداري والاقتصادي والقضائي والأمني، وأن لا تقف في ذلك أمام اعتبارات الطَّوائف والمذاهب والمواقع السياسيَّة الَّتي لطالما وقفت أمام أيّ إصلاح منشود، حكومة إنقاذ للبلد من كلّ ما يهدّد سيادته وأمنه وكرامة إنسانه.
إنَّنا نعي حجم الصّعوبات التي ستواجه هذه الحكومة في ظلّ التركة الثقيلة، وبعدما وصل البلد الى المنحدر الَّذي هو فيه، ولكنَّنا نعتقد أنَّها قادرة على تجاوزها إن عملت بكلّ جديَّة ومسؤوليَّة كفريق متعاون ومتجانس، وجعلت نصب عينيها الوطن كلَّه، لا هذه الطائفة أو تلك، أو هذا الموقع السياسي أو ذاك، أو أن تكون رهينة مصالح الخارج.
إنَّ حكمنا على هذه الحكومة وثقتنا وثقة اللّبنانيّين بها، سيكون من خلال أفعالها لا أقوالها، وما ستقدّمه إلى الوطن والمواطن فيه، ومن خلال مدى حرصها على أمنه وسيادته واستقلاله… إنَّ أمام الحكومة الكثير من المهمَّات الَّتي تقع على عاتقها، ولكنَّ التَّحدّي الأكبر الماثل اليوم أمامها في هذه المرحلة، والَّذي عليها أن تؤكّد مدى قدرتها وحضورها فيه، هو تحرير البلد من العدوّ الصهيوني الَّذي لا يزال يتمادى بخروقاته بتفجير المباني السكنيَّة والبنى التحتية، والتجريف للأراضي الزراعية في الشريط الحدوديّ، لجعل هذا الشريط الملاصق لكيانه أرضاً غير قابلة للحياة، إضافةً إلى خرق طائراته للأجواء اللبنانيَّة، وهو يماطل اليوم في الانسحاب من الأراضي الَّتي احتلَّها، ويعلن، وبكلّ صراحة، أنَّه لا يريد الانسحاب من خمسة مواقع، بحجَّة أنَّها تشكّل تهديداً لأمن مستوطناته، ومن دون أن يأخذ في الاعتبار التَّهديد الَّذي يؤدّي إليه وجوده فيها على أمن القرى اللّبنانيَّة الَّتي يطلّ عليها، وعلى سيادة هذا البلد، ما يدعو الحكومة اللبنانيَّة إلى أن تستنفر جهودها للضَّغط على الدول الراعية للاتفاق للقيام بالدَّور المطلوب منها، وأن تدعوها إلى أن لا يكون تعاملها مع هذا البلد من موقع المهزوم، وأن تستند في ذلك إلى كلّ مواقع القوَّة التي تمتلكها، وما أثبتته الوقائع السابقة والحاليَّة.
قرارٌ يمسُّ بسيادةِ البلد
ونبقى عند ما حدث بالأمس على طريق المطار من قطع للطرقات في أكثر من منطقة لبنانيّة، والذي جاء على خلفية القرار الَّذي صدر بمنع الطائرة الإيرانية المدنية من الهبوط في مطار بيروت، والذي لم يأخذ في الاعتبار أنَّها تحمل ركَّاباً لبنانيّين عالقين في مطار طهران، وأنَّ من حقّ دولتهم أن تؤمّن لهم سبل العودة إلى وطنهم.
ونحن أمام ما جرى، كنا نريد للحكومة في انطلاقتها أن تكون أكثر حكمة ووعياً لتداعيات هذا القرار، بعدما بدا أنَّه جاء استجابة لتهديدات العدوّ الصّهيونيّ، ما يسيء إلى صورة الدولة وهيبتها، ويمسّ بسيادة عمل مرفق حيويّ فيها.
إنّ على الدولة اللبنانية أن تأخذ في الاعتبار حساسية ما جرى على جمهور قدَّم قادته وآلاف الشّهداء ولا يزال في مواجهة هذا العدوّ، حفظاً لسيادة هذا البلد، وإن كنا في هذا المجال نتحفَّظ عن قطع الطرقات كأسلوب من أساليب الاحتجاج، لكونه يمسّ بمصالح من يريدون التنقّل، ولا سيَّما أنَّه مرفق حيويّ، أو أن يصل الأمر الى تصادم مع الجيش والقوى الأمنيَّة.
إنَّنا نريد للدَّولة أن تعيد النظر في قرارها، لتؤكّد لشعبها الوفيّ الحريص على وطنه، أنَّ قرارها لا يزال بيدها، وأنَّها حريصة على السّيادة وعلى كلّ مرفق في الوطن.
مؤامرةُ تهجيرِ أهلِ غزّة
ونصل إلى فلسطين، حيث يواجه الشَّعب الفلسطيني مرحلة هي من أخطر المراحل، حيث السَّعي إلى تهجيرهم وإخراجهم من أرضهم، والَّذي جاء التَّعبير عنه بكلّ وضوح من قبل الرَّئيس الأمريكي بتهجير أهل غزَّة إلى مصر والأردن، وإلى المملكة العربيَّة السعوديَّة وغيرهم، وأنَّه بوارد السيطرة عليها وتولي إدارتها، سعياً منه لتحصين أمن الكيان الصهيوني، وتوسيع قاعدة الاقتصاد الأمريكيّ، من دون أن يراعي وجود الشَّعب الفلسطيني فيها الَّذي له الحقّ في البقاء في أرضه، ما يدعو إلى موقف عربيّ جادّ لمواجهة هذا المخطَّط اللا إنسانيّ واللا شرعيّ الَّذي يهدف إلى القضاء على القضية الفلسطينيَّة، وندعو إلى الوقوف مع كلّ الدّول الَّتي ستواجه تهديداً إن هي أصرَّت على موقفها بعدم قبولها بتهجير الشَّعب الفلسطيني إلى أراضيها.
إنَّ على العالم العربي أن لا يرى نفسه ضعيفاً، فهو يملك الكثير من المقدّرات والإمكانات الَّتي تجعله قادراً إن هو استخدمها على منع هذا المخطَّط الَّذي يستهدف الشَّعب الفلسطيني وقضيَّته، وإنَّ قبوله لما يجري ورضوخه للضّغوط الَّتي تمارَس عليه، ستجعله يقبل بكلّ ما قد يملى عليه في مواقع أخرى.
وسنبقى نراهن على الشَّعب الفلسطيني الذي سيثبت مجدَّداً للرئيس الأمريكيّ وللعالم، بأنَّه متشبّث بأرضه ولن يغادرها، وأنَّه لن يكون سعيداً في أيّ أرض أخرى، رغم كلّ التَّدمير الَّذي تعرَّض له، وأنَّه لن يستسلم لما يقوله الرئيس الأمريكيّ مهما بلغ من ضغوط.