اضاءات
02/02/2024

الجدال الحسن في أحاديث الإمام الصادق (ع)

 الجدال الحسن في أحاديث الإمام الصادق (ع)

هل هناك جدال حسن وآخر منهي عنه ؟ نعم بحسب طبيعة موضوعات هذا الجدال وسياقاتها ومن ثم غاياتها ومنطلقاتها ، فإن كانت من أجل تثبيت الحق وتبيان الحقيقة والانتصار لقضايا العدل، فهي من الجدال الحسن كطريقة فكرية تتحقق من خلال جدال حسن قائم على الحجة والبرهان من أجل تقريب الفكرة وترك الطرف المقابل يتفاعل معها بشكل عفوي وتلقائي من دون إكراه..

كذلك من خلال الحكمة في الأسلوب الذي يفتح قلب الإنسان وعقله على الحقيقة بشكل لا يترك حزازة في النفس، أما الجدال المنهي عنه فهو غير القائم على حجة وبرهان وينطلق من خلال الفوضى وعدم التنظيم الفكري ولا يمتلك غاية شريفة بذاته فهو جدال من أجل الجدال لا بل يزداد خطورة كونه يمارس دوراً سلبياً إضافياً في زيادة الشبهات وتعمية الحقائق وخلط الأمور ويساعد على التزييف ونشر ثقافة الخداع والنفاق.

نستعرض في هذا المقام جملة من الأحاديث كما وردت على لسان الإمام جعفر الصادق عليه السلام، والتي أضاءت على الجدال وما يتصل به من مسائل كما وردت في كلام العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله"رض" : وقد نجد ملامح هذه الحقيقة في بعض الأحاديث المرويّة عن الإمام جعفر الصادق (ع).

فقد روي عنه أنه قال ـ وقد ذكر عنده الجدال في الدِّين وأنّ رسول اللّه (ص) والأئمة(ع) قد نهوا عنه ـ قال: لم ينه عنه مطلقاً ولكنَّه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن.  أمّا تسمعون قوله تعالى: {ولا تجادلـوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسـن} [العنكبوت:46] وقوله تعالى: {ادعُ إلى سبيـل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل:125] فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدِّين

والجدال بغير التي هي أحسن محرّم، حرّمه اللّه على شيعتنا، وكيف يحرّم اللّه الجدال جملة وهو يقول: {وقالوا لن يدخل الجنّة إلاَّ من كان هوداً أو نصارى} [البقرة:111] قال اللّه تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة:111] فجعل علم الصدق الإتيان بالبرهان، وهل يأتي البرهان إلاَّ في حدّ الجدال بالتي هي أحسن؟

قيل: يا ابن رسول اللّه، فما الجدال بالتي هي أحسن، والتي ليست بأحسن؟

قال: أمّا الجدال الذي بغير التي هي أحسن، فأن تجادل مبطلاً فيورد عليك باطلاً فلا تردّه بحجّة قد نصبها اللّه، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقّاً.

 يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله فتجحد ذلك الحقّ مخافة أن يكون له عليك فيه حجّة، لأنَّك لا تدري كيف المخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا أن يصير فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين، أمّا المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف ما في يده حجّة على باطله، وأمّا الضعفاء منكم فتغتمّ قلوبهم لما يرون من ضعف الحقّ في يد الباطل.

وأمّا الجدال بالتي هي أحسن، فهو ما أمر اللّه به نبيّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له فقال اللّه تعالى ـ حاكياً عنه ـ {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} [يس:78].

فقال اللّه تعالى في الردّ عليه {قل يحييها الذي أنشأها أول مرّة وهو بكلّ خلق عليم  الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون} [يس:79ـ80].

فأراد اللّه من نبيّه أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يمكن أن يبعث اللّه هذه العظام وهي رميم؟ فقال اللّه: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرّة} [يس:79] أفيعجز من ابتدأ به لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى، بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته.

ثُمَّ قال: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً} [يس:80] أي إذا كان قد كمن النّار الحارة في الشجر الأخضر الرطب ثُمَّ يستخرجها فعرّفكم أنه على إعادة من بلي أقدر.  ثُمَّ قال: {أوليس الذي خلق السّماوات والأرض بقادرٍ على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم} [يس:81] أي إذا كان خلق السّماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم فكيف جوزتم من اللّه خلق الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولا تجوّزون ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي؟

قال الصادق(ع) فهذا الجدال بالتي هي أحسن، لأنَّ فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم، وأمّا الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجحد حقّاً لا يمكنك أن تفرّق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحقّ، فهذا هو المحرّم لأنك مثله، جحد حقّاً وجحدت حقّاً آخر.

وقد نقلنا هذا الحديث بطوله، لاشتماله على بعض النماذج الحيّة للأسلوب الإسلامي في الجدال والصراع.  وسواءٌ أصَحَّت هذه الرواية عن الصادق(ع) أم لم تصح، فإننا واجدون فيها الحقيقة التي نلتقي بها في أكثر من آية ومع أكثر من حديث.

وهي الحقيقة التي تشجب صدور الباطل عن المسلم وجحود الحقّ في أي زمان ومكان، لأنه إن لم يتبع ذلك فلن يبقى هناك فاصل بينه وبين المبطل، كما ورد في الحديث "لأنه جحد حقّاً وجحدت حقّاً مثله".

وأخيراً، إنَّ على المسلم إذا أخلص لرسالته ووعى أهدافها أن يدرك مسؤوليته أمام اللّه تعالى في ما يهدف وفي ما يعمل، فلا يحاول الانحراف عن إرادة اللّه تعالى في وسائله كما لا يحاول الانحراف عنها في غاياته، فإنَّ اللّه تعالى "لا يطاع من حيث يعصى" في أية حالة من الحالات.

كما أنَّ عليه أن يدرك أيضاً ـ إذا أراد العمل في سبيل اللّه ـ أنَّ أية خطوة يخطوها في هذا السبيل، وأيّة كلمة يتكلّم بها في هذا المجال، تعتبر حجّة على رسالته، أو لرسالته، فليفكر طويلاً، وليحذر قبل أن يضع قدمه في بداية الطريق. (من كتاب قضايانا على ضوء الإسلام).

من خلال كل ما تقدم من كلام لسماحته "رض" نخلص إلى القول إن الجدال وسيلة تظهر مدى مسوؤلية الإنسان ووعيه في تحمل هذه المسؤولية في الإنتصار للحق ودوره المفصلي في تحريك الحياة على قاعدة رفدها بكل ما يصلحها وينفع قضايا مجتمعه ، وبوجه خاص اليوم مع ما نراه ونسمعه من تشابه الأمور ومحاولة البعض تزييف الحقائق وإلباس الباطل لبوس الحق والتلاعب بالعقول والعدوان على الحقوق والكرامات فاليوم المسؤولية كبيرة والخطر محدق فأين المسلمون من قضاياهم المركزية والحيوية وماذا قدموا لها؟

 
محمد عبدالله فضل الله
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير