20/09/2024

االعزَّةُ للمؤمنين بالارتباطِ باللهِ والاستعدادِ للتَّضحية

االعزَّةُ للمؤمنين بالارتباطِ باللهِ والاستعدادِ للتَّضحية

ألقى سماحة السيّد جعفر فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين..

وقد تحدَّث في الخطبة الأولى عن موضوع العزَّة للمؤمنين، منطلقًا من قول الله تعالى: {وَلِلّٰهِ الْعِزَّةُ‌ وَلِرَسُولِهِ‌ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‌}[المنافقون: 8]، لافتاً إلى أنَّ العزَّة هي الشّعور بالقوَّة الدَّاخليَّة، وهي تقومُ على الاعتماد على الله الَّذي هو منبع العزّة والقوَّة جميعًا، وبالسَّير على منهاج رسول الله في كلِّ ما حدَّده من حركة العزَّة في مجالات الحياة.

 

وبيّن سماحته أنَّ العزَّة تبنى على الإيمان، وعلى الارتباط بالله والتوكّل عليه، مشيراً إلى أنَّ الأخذ بالأسباب جزء من الارتباط بالله، ولذلك يتحوَّل الشّعور لدى المؤمن إلى إرادة صَلبة، ترفُضُ الذُلَّ والهوانَ في مواجهة التحدّيات.

 

وضرب سماحته مثلاً بما حدث مع رسول الله (ص) عندما وقفَ المشركون أمام الغار الّذي كان فيه (ص) مع صاحبه، وكان بين المشركين وبين النَّبيِّ خطواتٌ، ولكنَّ الشّعور بالعزّة أعطى النّبيّ معنى القوَّة الذَّاتيَّة: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، وكانت عاقبة ذلك {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التّوبة: 40].

 

وأشار سماحته إلى أنَّه عندما يقفُ المؤمنون أمام جمع الأعداء؛ عسكريًّا وسياسيًّا، نجد العزَّة تتمثَّل في الموقف الَّذي يعكسه قول الله تعالى: {الَّذِينَ قٰالَ لَهُمُ النّٰاسُ إِنَّ النّٰاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزٰادَهُمْ إِيماناً وَقٰالُوا حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‌}[آل عمران: 173]، وكانت نتيجة ذلك: {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 174- 175].

 

واستشهد بعدد من الآيات القرآنيّة، ومنها: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ}[التَّوبة: ٥٢]، ما يوحي بأنَّ المؤمن لا يخاف الموت، فلا يضعف أمام كلِّ التَّهاويل الَّتي تخوِّفه بالموت.

وبقوله سبحانه: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}[النساء: 104]، {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140].

ثمَّ ذكر بعض الأحاديث الّتي تناولت موضوع العزّة، ومنها حديثٌ للإمام جعفر الصَّادق (ع): «إنَّ الله عزَّ وجلَّ فوَّض إلى المؤمن أموره كلَّها، ولم يفوِّض إليه أن يذلَّ نفسه؛ ألم يرَ قولَ الله عزَّ وجلَّ ها هنا: {وَلِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‌}. والمؤمن ينبغي له أن يكون عزيزًا ولا يكون ذليلاً»، وقوله (ع): "إنَّ المؤمن أعزُّ من الجبل؛ إنَّ الجبل يُستقَلُّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يُستقَلُّ من دينه شيءٌ‌».

 

ورأى سماحته أنَّ العزَّة تتجلّى في مجالات الحياة كلّها؛ فهناك العزّة السياسيّة، والعزّة الاقتصاديّة، والعزّة الأمنيَّة والعسكريَّة، والعزَّة الاجتماعيَّة والحضاريَّة، مؤكّداً أهميّة الوحدة بين المسلمين كقاعدة للعزَّة الإسلاميَّة، مستشهداً بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].

 

واعتبر أنّ العزّة ليست بامتلاك الثَّروة ولا المال ولا الوسائل والأدوات؛ ولا بأن تكون لديك مقدّرات الحضارة؛ لأنَّك قد تكون في داخل نفسك ذليلًا؛ لذلك يقول الله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[آل عمران/112].

 

ثمّ تحدَّث عن هاجس الخوف عند العدوّ، وعن عقدة الاستعلاء الّتي يعيشها، خاتماً بعرض الأسباب الّتي أدّت إلى ضعف المسلمين أمام العدوّ.

 

ومما جاء في خطبته السياسية:

 

ما يقرب من عام على طوفان الأقصى، والعدوّ الصهيوني يستمرّ في خرق القوانين الدولية والدّوس على أيّ معيار أخلاقيّ أو إنسانيّ؛ وهو في كلِّ ذلك مدعومٌ بالترسانة العسكرية والتكنولوجية الغربية، ومغطًى سياسيًا تجاه أيّ محاسبة أو ملاحقة حتّى من قبل مؤسّسات ومحاكم دوليّة، ولا سيّما من قبل الإدارة الأمريكية، التي لا تكفُّ عن إبراز أنّها والكيان الصهيوني في جبهة واحدة، تجاه كلِّ المعتدى عليهم من حركات المقاومة ودولها؛ وتمارسُ النفاق السياسي والدبلوماسي في كلّ ذلك.

 

منذ اللحظة الأولى، أظهر سفور الدّول الغربية الكبرى في دعم الكيان، أنّنا لا نواجهُ محتلًا للأرض فقط، بل نحن مستهدفون من قبل منظومة استكباريّة عالمية، متشابكة المصالح، ومتخادمة الأدوار، ولا مانع لديها في كلّ الإبادة والقتل الذي يقوم به الكيان في فلسطين والمنطقة؛ فقط تريد تلك المنظومة أن لا تقع في إحراجٍ تجاه خطابها المعسول في حقوق الإنسان، والقوانين الدولية، وما إلى ذلك لكن هذا الخطاب فضح وكشف الوجه الحقيقي لهذه الدول.

 

بالنسبة إليه، هي حقوق إنسان العالم الأوّل، وهي قوانين دولية لتطبّق على الشعوب المستضعفة، والمسخرة – بطريقة حضارية – لتغطية الاحتلال السافر والمقنّع، ونهب ثروات الشعوب ومنع أيّ دولة من النهوض إلّا في فلك المصالح الغربية الاستكبارية، كلُّه باسم الديمقراطية وتمكين الشعوب وما إلى ذلك.

 

إنّ الاستكبار ملّة واحدة، والشرّ الذي يبلغُ مداه الأقصى عالميًا، بات الوجه الآخر للحضارة الغربية؛ التي سخّرت كلّ نتائج التطوّر العلمي للمزيد من الإفساد في الأرض وسفكِ الدّماء.

 

نحن لسنا معتدين، وقد حاولنا أن نمدَّ أيدينا لنتعاون في بناء حضارة العالَم؛ ولكنّكم اعتديتم علينا من أكثر من قرنٍ؛ عندما وعدت حكوماتكم اليهود بأرضٍ ليست لكم، وحميتم عصاباتهم لترتكب المجازر، وتمارس التهجير في حقّ القرى الآمنة، ثمّ اعترفتم بالكيان، وأصبح أصحاب الأرض مشرّدين في أصقاع الأرض، لا حقّ لهم في مقاومةٍ، ولا في عودةٍ، وما زلتم مستمرّين في السياسة ذاتها، ولكنّها اليوم أشدّ وضوحًا، لا تخفيها التصريحات الدبلوماسية المبرمجة، ولا البيانات المعسولة، ولا الخطاب الإنسانيّ الشكليّ.

 

والذي جرى في لبنان في الأيام الماضية، من تفجيرٍ لوسائل الاتصال ذات الطابع المدني، ليس خرقًا للخطوط الحمراء، وإطاحة بكل القواعد، وسحقًا لكل المبادئ والأخلاق في إدارة الحروب فحسب، وإنّما بات عيّنةً واضحة عن الحروب المستقبليّة، التي تقودها المنظومة الاستكبارية الغربية، على يد ربيبتها "إسرائيل"، الأمر الذي سيجعل كلّ فردٍ معارضٍ لمصالحها مهدًدًا وهو يعيش حياته اليومية العاديّة، في عمله أو في بيته، حتّى وهو بين أطفاله أو في غرفة نومه.

 

لذلك، فإنّ الصراع الحقيقيّ اليوم: أيّ عالمٍ نُريد أن يكون لأبنائنا وبناتنا؟

 

هل هو العالم الذي أميتَ فيه الإله – بكلّ تجلّي القيم الأخلاقية فيه – وتألّه في الإنسان إلى حدٍّ باتِ وحشًا كاسرًا، لا تحكمه قيمة، ولا يردُّه قانون، عندما يمتلك القوّة وأسبابها؟ أم هو العالَم الذي يؤخَذ فيه الحقُّ للضّعيف من القويّ، ويرتكزُ فيه الأمنُ والسلام على قاعدة العدالة المطبّقة على الجميع.

 

ونحن نعرفُ أنّ هذا الصّراع طويل الأمد، وفيه الكثير من الآلام والمآسي، والتي نتجرّعها بالصَّبر، ونواجهها بالتوكُّل على الله، والإعداد ما استطعنا من قوّة، في العلم والتقنية والسياسة والاقتصاد والأمن وما إلى ذلك؛ هذا هو قدرُنا، (والعاقبة للمتقين).

 

نحن نفكّر في حجم الزّمن الذي هو بيد الله؛ والغايات التي نُريد أن نبلغَها في عين الله وفي عُهدته، وهي وعدُ كتابه التي لا يُغلب عليها؛ (فالله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر النّاس لا يعلمون)؛ ونحن امتدادٌ لأجيالٍ مضت في هذا الطريق، وجزءٌ من أجيالٍ لا تزال في أصلاب الرجال وأرحام الأمّهات، ولذلك نحنُ نرقُبُ الفلاحَ الدّائم في سبيل الله، إذا انتصرنا رأيناه نعمةً وامتحانًا: (وما رميتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رمى وليُبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا)، وإذا تراجعنا عرفنا أنّه تطهيرٌ للمسيرة: (وليبتلي الله ما في صدوركم وليُمحّص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور)؛ وإذا كنا نتألم فإن العدو أيضا يتألم وفي كلّ ذلك مصرّون على النموذج الأخلاقيّ؛ في الجهاد العسكري، والسياسي والاقتصادي والعلمي والتقني وما إلى ذلك.

 

وإلى أهلنا الذين سقطوا في دمائهم بطريقة لم تستوعبها عقولنا بعدُ؛ نقول لهم: اعذرونا إن لم نقدّم لكم سوى الكلمات؛ وأنتم تقدّمون برغم نزف الجراح وشدّة الألم أعلى نموذج للإنسانية والأخلاق، صُدم فيها الممرّضون والمسعفون في مشهدٍ لم يعتادوه في مسيرتهم الطبية؛ وبكم نفهم حديث رسول الله (ص): "إنّ الرجل ليكونُ له الدّرجة عند الله لا يبلغُها بعمله، حتّى يُبتلى ببلاءٍ في جسمه فيبلغها بذلك".

 

دعاؤنا للشهداء برفع الدرجة، وللجرحى بالشفاء والصبر والسكينة..

 

ولا نملك هنا إلّا أن نستعيد حقيقة التوحيد لله، والتسليم لقضائه، عندما تلقّى دم ولده الرّضيع مذبوحًا، فقال: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله"، ودعا ربَّه متضرّعًا: "اللهمّ إن تكُ حبسْتَ عنّا النَّصر من السَّماء، فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم لنا من هؤلاء الظّالمين".

 

لقد اعتمدت هذه الأمة المجاهدة منذ  انطلاقتها على الله، وقدمت الكثير من التضحيات وهي لا تبخل بتقديم المزيد منها، وهي تتعلم الكثير من تجاربها وتأخذ منها الدروس والعبر، وهي بذلك تخرج من كل مواجهة أكثر خبرة وقوة وصلابة، تسد الثغرات وتتجنب الأخطاء وتراكم على النجاحات والانجازات حتى تحقيق وعد الله الذي وعد المظلومين بنصرتهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)..

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير