ألقى رئيس المؤسسة، سماحة العلَّامة السيِّد علي فضل الله كلمة في اللّقاء الذي نظمته الجامعة الأميركيَّة في بيروت، حول الموقف الشرعي والديني من ترك المريض الميؤوس من حياته من دون استخدام وسائل اصطناعيَّة لإبقائه على الحياة مدَّة أطول، عبَّر في بدايتها عن تضامنه مع غزَّة أمام ما تتعرَّض له من اعتداءات همجيَّة طالت البشر والحجر، معلناً تضامنه مع الكادر الطبي الَّذي يقدِّم الشّهداء في تأدية رسالته الإنسانيّة، مشيراً إلى ضرورة إبقاء الصَّوت عالياً لنصرة غزَّة وأهلها.
وتوجَّه سماحته بالشَّكر لمنظمي هذا اللقاء على هذه الدعوة الكريمة، للحديث عن الأسلوب الأمثل للتعامل مع المريض الَّذي وصل إلى درجة اليأس في علاجه، معتبراً أنَّه لا ينبغي التعامل مع هذه الحالات إلَّا بالأخذ بكلِّ أبعادها، وهي البعد الطبي والإنساني والعاطفي والشَّرعي…
وأضاف: سأتناول الحديث عن البعد الشَّرعي، وبحسب آراء فقهاء المذهب الشيعي، وذلك بناءً على اجتهاداتهم التي يرون فيها عدم جواز المسّ بالحياة والحفاظ عليها، وذلك أولاً للقيمة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى للحياة الَّتي هي أثمن نعمة وهبها الله للإنسان لا تضاهيها نعمة أخرى، وقد منحها القدسيَّة عندما أسندها إليه، فقال: }فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي{، ما جعل أمرها بيده، فهو لم يجز لأحد أن يهدِّد حياة الآخرين، وقد أفاض الله سبحانه وتعالى بالتَّشريعات التي تضمن الحماية لها والتَّحذير من مسِّها، وفرض العقوبات الشديدة على من يتعرَّض لها، سواء في الدنيا أو في الآخرة، منذ اللَّحظة الأولى لتشكّلها وهي في رحم الأمّ…
وأكَّد أنَّ الله لم يجز لأحد أن يسلبه إيَّاها، حتَّى أبواه لا يحقُّ لهما، وتحت أي اعتبار، ومهما كانت الأسباب، أن ينتزعا منه هذا الحقّ، لرغبةٍ منهما في عدم الإنجاب، أو لمشكلةٍ في خلقه، فالله هو الَّذي أعطى، والله وحدَه هو من يقرِّرُ أن يأخذ، والله في القرآن الكريم لم يجز القتل إلَّا ضمن حالات استثنائيَّة وضوابط محدَّدة، وحرّم أن يقتل الإنسان نفسه، وحتى عندما يكبر الإنسان ويصبح عجوزاً هرماً لا قدرة له على الحركة، أو يعاني مرضاً عُضالاً أو ميؤوساً من شفائه، كما يقال، وهو في أيَّامه الأخيرة، لا يجوز له هو ولمن حوله أن يفرِّطوا في حياته، حتى ولو اعتقدوا أنَّ ذلك رحمة له، أو ان يتسبَّبوا بإنهائها بعدم إعطائه العلاج المطلوب، وتحت أيّ اعتبار، فمن الواجب حفظ هذه الحياة والتمسّك بها حتى الرمق الأخير، فالحياة ملك خالقها وواهبها ومصدرها، ولا يحقّ لأحد أن يقرِّر إنهاءها…
وتابع: في ضوء ذلك، يمكن القول إنَّ الإنسان ما لم يؤكِّد العلم تحقّق موته، فإنَّ الواجب الأخلاقي والديني يقتضي عدم التواني في توفير كلّ الوسائل الطبيّة التي تطيل في حياته وتحسِّن من نوعيَّتها، وينطبق ذلك في شكل واضح على من يعاني مرضاً عضالاً أو ميؤوساً من شفائه، حيث لا يجوز عدم اللّجوء إلى الوسائل الاصطناعيَّة عندما تساعد على استمرار حياته، حتى لو كان الاحتمال العلمي لبقائه في قيد الحياة قصيراً، فقيمة الحياة تبقى قيمة، وهي لا تتجزَّأ، مشدِّداً على أنَّ المريض نفسه أو أهله، لا يحقّ لأحد منهم في مثل هذه الحالات أن يمنع إيصال الوسائل الاصطناعية إليه أو نزعها.
وأكَّد أنَّه في ثقافتنا الإيمانية والواقعية، لا ينبغي اليأس من إمكانات الشفاء، وكم حسم الكبار من الأطباء، ووفق حسابات علمية دقيقة، أنّ شخصاً ميؤوساً من حياته، وأن الفرصة لحياته لا تتجاوز أياماً، إلا أنه تجاوزها إلى سنين، من دون أن نذكر الحالات التي تماثلت للشّفاء، ولو كانت نسبة هذه الحالات نادرة، وهي حالات يقف أمامها الأطباء مندهشين…
واعتبر أنَّ الأمل عند المؤمنين بالله كبيراً، فلعلَّ الطبَّ يكتشف بعد يوم ما يخفِّف عنه آلامه، أو يحفظ له حياته، ولا سيَّما أنَّ التجارب على اكتشاف الأدوية المناسبة لا تتوقَّف، وكم من مريض جرّب عليه دواء من هذا النَّوع ونجحت التجربة…
ولفت إلى أنَّنا نرى الكثير من الحالات المرضيَّة استطاعت بما تمتلكه من صفات روحيَّة إيمانيَّة أن تتجاوز هذه المحنة بالحدّ الأدنى من الآلام، وذلك بعدما ثبت ما للجانب الروحي في الإنسان من التأثير في الجانب المادّي، وكلّ هذا يدعو إلى استمرار بذل الجهد الطبي إلى نهايته، متسائلاً عمّا إذا كان الانكفاء عن معالجة الإنسان المريض المبتلى بالمرض المستعصي، يساهم في عملية القتل ولو في شكل سلبي، والسّؤال: هل ثمة فرق بين القتل السلبي والقتل الإيجابي…
وتابع: ألا ترون معي أنَّه لو جرى التسامح في هذه القضيَّة الإنسانيّة الحسَّاسة على المستوى الفردي والاجتماعي، وجرى تشريع وتقنين ما يؤدِّي إلى فقدان الإنسان حياته، ألا يمكن أن يؤدِّي ذلك إلى فتح الباب إلى التشريع للمسّ بالحياة لحالات مماثلة، كالسَّماح بالانتحار للأشخاص بذريعة أنَّ الحياة التي يعيشونها باتت تشكِّل عذاباً مستمراً وآلاماً لا تطاق، أو لآخرين تعرَّضوا لأزمات نفسيَّة أو اجتماعيَّة صعبة حوَّلت حياتهم إلى جحيم، فأرادوا التخلص منها؟!
وختم: لا ينبغي أن نغفل الأثر الَّذي يتركه الحفاظ على الحياة على أهل المريض ومحبّيه الذين ينعمون بوجوده كأب أو أمّ أو اخ أو زوج أو زوجة أو عزيز، رغم أنها ليست الحياة التي يتمنَّونها، وعلى الجسم الطبي الَّذي ينبغي أن يعبِّر عن إنسانيَّته، أن يبذل جهده الطبي، وأن لا يقف عند حدّ حتى يكون قد أدَّى واجبه المهني والإنساني، وأدَّى الدور الذي أقسم على أن يتمَّه على أكمل وجه، وأن لا يدع إنسانيَّته جانباً…