اضاءات
28/11/2023

هل يمكن أن يعبد البشر الأصنام من جديد؟

هل يمكن أن يعبد البشر الأصنام من جديد؟

ندرك اليوم سفاهة عبادة الأصنام؛ وأنّ هذا الأمر يمثّل تخلّفًا فكريًا وضحالة نفسيّة.

السؤال: لماذا تحدّث الله عن الأصنام في كتابه العزيز؟ هل فقط لكي يعالج ظاهرةً كانت موجودة في زمان النّبي؟ وتنتهي القضيّة عند هذا الحدّ؛ لتكون المقاطع القرآنيّة التي تناولت عبادة الأصنام مجرّد تاريخ، نقرؤه اليوم في قصّة نوح وإبراهيم واللات والعزّى وما إلى ذلك؟

أم أنّ للموضوعِ بُعدًا آخر، مرتبطًا بالسيرورة التي أنتجت مثل هذه الظاهرة، والتي يمكن أن تستمرّ مع الشعوب بطرق مختلفة؟

سنحاول الإجابة على ذلك من خلال التدبّر في عدد من الآيات القرآنية التي تحدّثت عن الأصنام، فهي التي تقودُنا وتوجّه خيط تفكيرنا.

أهمّ ما ذكره القرآن الكريم ثلاثة أنواع:

الأوّل: أصنام قوم النبيّ نوح (ع)، وهي ما ذكره الله في قوله تعالى: (وقالوا لا تذرنَّ آلهتكم ولا تذرنَّ ودًّا ولا سواعًا ولا يغوثَ ويعوقَ ونسرًا)[1]، وقد قيل إنّهم كانوا عبادًا صالحين فاتّخذ الناس من بعد موتهم أعوادًا ترمزُ إليهم، ومع مرور الزمان زادت هذه القداسة، ودخل الغلوّ في تصوّرات النّاس لهؤلاء فعبدوهم من دون الله.

الثاني: أصنام قوم النبي إبراهيم (ع)، وهي ما قصّ الله تعالى قصّتها في قوله: (واتلُ عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون، قالوا نعبُدُ أصنامًا فنظلُّ لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرّون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)[2]. لم يذكر الله تعالى السبب الذي دعا قومه إلى اتّخاذ هذه الأصنام، ولكن يبدو أنّ ضغط المجتمع هو السبب في استمرارها. وإن كان هناك احتمالٌ أن تكون تلك الأصنام هي رموز للكواكب التي قصّها الله تعالى علينا في محاكاة إبراهيم (ع) للبحث عن الخالق..

ويبدو لنا من خلال هذا النصّ القرآيّ أنّ المنطق كان موجودًا لدى أبناء ذلك المجتمع، ولذلك لم يجيبوه بمنطق، وإنّما كانت الأعراف والتقاليد والقداسة الاجتماعية كانت أقوى. لاحقًا احتاج إبراهيم (ع) إلى إحداث صدمة عنيفة تضعُ المجتمع أمام مشاعرهم بطريقة صارخة: (فجعلهم جذاذًا إلّا كبيرًا لهم لعلّهم إليه يرجعون…)[3]، ليزعزع اعتقادهم من المنطق الذي فرضه المشهد الصّادم عليهم.

الثالث: اللات والعزّى ومناة الثالثة، وهي الأوثان الثلاثة الكبرى التي كان العرب يعبدونها، وكان العرب يؤمنون بالله، ولذلك قال الله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخّر الشمسَ والقمرَ ليقولُنَّ الله)[4]، ولكنَّهم كانوا يعتقدون بأنّ هذه الأصنام وسيلة إليه: (ما نعبُدُهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زُلفى)[5].

ونحن نريد أن نتفكّر في كلّ ذلك، لنستخلص مجموعة من المبادئ التي نستفيد منها لواقعنا، وهنا نطرح خمسة خلاصات أساسيّة:

أوّلًا: أنّ اتخاذ الآلهة يقوم على إعطاء الإنسان رمزيّتها، وذلك من خلال ما يضفيها عليها من قداسة. بالتالي الإنسان هو مصدر ألوهيّتها، وهي تفتقر إلى الألوهيّة الحقيقيّة في ذاتها: (إن هي إلّا أسماءٌ سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان)[6].

ثانيًا: رفض القرآن الكريم لنظام الوسائط، واعتباره مناقضًا للتوحيد. وأنّ التفسير الذي يحافظ على موقع الله لا يغيّر من حقيقة شيء، وهو أنّ الارتباط العبادي يحصل بالوسيط من خلال التركيز عليه، وبالتالي يغيب الأصل.

ثالثًا: أنّ نظام الوسائط يختزنُ الإحساس بعدم القابليّة لدى الإنسان في التواصل مع الله، ولذلك احتاج إلى هذا النظام العقائدي إلى آلهة وسيطة بين البشر وبين خالقهم. في المقابل ركّز القرآن الكريم على محوريّة الله تعالى، وأنّه (قريبٌ) وأنّه (أقربُ) وأنّه (معكم أينما كنتم)، وأنّ الإنسان يملك قابليّة التواصل المباشر، وإذا كانت الحجُبُ تحجُبُه عن الله، فالتواصل المباشر هو المزيل للحجُبِ.

وللمزيد من البيان، إنّ ساحة النفس هي المجال الذي يحصل به الحجابُ عن الله، وهو ذاتُهُ الذي ينبغي أن ينقشع. نظام الوسائط يجعلُ فرضية إزالة الحجب تتمّ من خارج الإنسان، وهي في الحقيقة إزالة حجبٍ تجاه الوسيط أكثر منه تجاه الخالق.

رابعًا: أنّ متغيّرات الزمان قد تساهم في إحداث طفرات سلبيّة في نظام الرموز، ليتحوّل الرمزُ إلى أصيلٍ في المعنى، وهذا ما حصل مع قوم نوحٍ (ع) – بناءً على الرواية المشار إليها -، وهو المرشّح لأن يحصل في كلّ مجتمع، الذي فيه التنوّع والتفاوت في الوعي والحاجات النفسية والمستوى الثقافي وما إلى ذلك، ممّا يؤثّر على طريقة تعامل الناس مع الرمز.

خامسًا: هذا تطلّب من الإسلام العمل على كثيرٍ من الضوابط من أجل ضمان مركزيّة التوحيد في حياة الناس، سواء في التصوّرات أو في الألفاظ أو في الممارسات؛ وهذا ما نرجو أن نوفّق للحديث عنه في القادم من الأيّام.

 
العلامة السيد جعفر فضل الله
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير