اضاءات
04/11/2023

ما هو أبعد من ألم الحرب

ما هو أبعد من ألم الحرب

كلّما طال أمد الحرب الإجرامية التي يشنّها العدوّ الصهيوني على قطاع غزّة، فإنّ آثارًا تاريخية ستصبُّ في مصلحة الشّعوب، كلّ شعوب العالَم:
الوجه الإجرامي للعدوّ لم يعد مجرّد فعل أو ردّه، بل يبدو يومًا بعد يوم كثافة مـتأصلة في هويّته، وهذا ينسف مبدأ التعايُش معه، فمن يمارس هذا المستوى من الإجرام الذي يستهدف شاحنة مكشوفةً مكتظّة بالفلسطينيين النازحين داخليًا في غزّة، وإبادة عائلات بأكملها، فضلًا عن أعداد الأطفال والنساء الشهداء، على قاعدة أنّ هؤلاء “حيوانات بشرية”، يرسُم صورةً تنسفُ كلّ الحضاريّة التي قدّمها عن نفسه في مقابل دول ديكتاتورية حوله. قرآنيًا صورة هؤلاء كانت وما زالت واضحة: هؤلاء قتلة أنبيائهم: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رُسلًا كلّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقًا كذّبوا وفريقًا يقتلون)/ المائدة: ٧٠.

أنّ أيّ سلامٍ معه سيقوم على قاعدة هشّة ما تلبثُ الظروف أن تغيّرها. قرآنيًا صورة هؤلاء راسخة: (أوَكلّما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)/ البقرة: ١٠٠. ليس هذا فحسب، بل هذا ما اختبرته الشعوب منذ اتفاق أوسلو عام 1993 وحتى اليوم، والتي كان آخرها سياسيًا ما أعلنه الرئيس الأميركي السابق ترامب من الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، وما تم الحديث عنه لاحقًا من ضمّ الجولان وغور الأردن والوطن البديل..

أنّ الدعاية الإعلامية لقوّة هذا الكيان وتفوّقه قائمة على أمرين: تسويق صورة غير حقيقية عن نفسه، وقمع أي صورة مغايرة في وسائل الإعلام والسياسة، وصولًا إلى الأروقة العلمية، كلّه تحت قانون “معاداة السامية”.

أنّ ما أفرزه ما سمّي بالربيع العربي، ولا سيّما لجهة الفتنة بين حركات التحرير الإسلامية قد تمّ غسلُهُ بالتطوّرات اللاحقة والاعتداءات على المسجد الأقصى والأسرى والحروب التي شنّها الاحتلال بين وقتٍ وآخر على فلسطين، وتحوّل جذريًا مع الأحداث الحالية. يمكن مراقبة مزاج بعض وسائل الإعلام العربية في طريقة خطابها تجاه بعض الحركات الإسلامية سابقًا وحاليًا.

أنّ الأحداث المتكرّرة قد أعادت فتح القضيّة على كلّ مساحة الفرز الجغرافي الذي حصل للفلسطينيين، وتحديدًا في الضفّة والأراضي المحتلّة عام ١٩٤٨، وبالتالي فتح ساحات التحرير في الوجدان الذي سيكون لتكامل الظروف دورَه الأساس في تفعيله على الأرض. آخر اختبارٍ لذلك كان معركة “سيف القدس” قبل الأسطورة التي كتبتها فلسطين في عمليّة طوفان الأقصى. هذا كلّه فضلًا عن توحيد الفصائل الفلسطينية.. اليوم هم أكثر تجسيدًا لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا)/ آلدعمران: ١٠٣.

التشظّي العربي الذي حصل منذ ما سمّي بالربيع العربي، ولاحقًا بالحصار الاقتصادي الغربي ولا سيّما الأمريكي، والذي أدّى إلى انكفاء كل بلد إلى داخله، تُعادُ فيه البوصلة إلى مفهوم الأمّة، ليبدو المشهد الشعبي العربي متلاحمًا عابرًا لتنوّع البلدان، في التظاهرات والأصوات التي تستعيدُ حتّى الأناشيد التاريخية التي واكبت القضيّة.
كثيرٌ من دول الطوق خاضعة للسياسة الأمريكية المتماهية مع سياسة الاحتلال الصهيوني، ولكنَّ تحدّي الضغط عليها لقبولها بـ”الوطن البديل” على أراضيها قد يُطلقُ – ولو نسبيًا – الوجدان الشعبي المكبوت داخلها تجاه القضيّة، وهذا أمرٌ في غاية الأهمّية إذا ما أوجبت الضغوط تعاظمه.

الرأي العام الغربي الذي بدأ يتفاعل مع الشعوب الأخرى نتيجة وجودها في المغتربات، أو بسبب التواصل الاجتماعي، سيكون أمام صورة أخرى ورواية مختلفة سيقدّمها الحاملون للقضية إلى أصدقائهم وأقرانهم.

ستظهر الحكومات الغربية بوضوح أكثر قمعيّة للرأي الحُر؛ وكمؤشّر على ذلك ما تحدّثت به وزيرة الداخلية البريطانية مؤخّرًا من البحث في اعتقال الشرطة كلّ من يردّد شعار: “فلسطين حرّة” أو عبارة “من النهر إلى البحر”.

مصداقية وسائل الإعلام الغربية وغيرها، ستكون على المحكّ. ما حصل مع شهيد الصحافة عصام عبد الله الذي استشهد بقصف مروحيّة إسرائيلية له ولزملائه، وكيفية صوغ الخبر من قبل الوكالة التي يعمل فيها له دلالات كثيرة في هذا المجال، وأنّ رضوخ الوكالة لتلميع نسبي للخبر يدلُّ على حجم الضغوط التي تتعرّض لها نتيجة عدم سكوت الرأي العامّ الآخر.

من الآثار أن يفقد العاملون في المنظمات والمؤسسات الدولية، على تنوّعها، الانتماء الوجداني في أماكن عملهم، نتيجة السفور الذي يُمارَس في الخطاب المتعاطف مع الجلّاد قياسًا بالإبادة الجماعية التي تحصل على مرأى من العالم ومسمع.

المهاجرون العرب والمسلمون، الذين هاجروا ناقمين على بلدانهم وانتماءاتهم، ستتغير نظرتهم إلى البلاد الغربية الصناعية بالتوازن أمام البُعد الإنساني الذي ستغيّبه السياسة والإعلام، ولن يخلط بعدُ بين التطوّر التقني لتلك البلاد والحسّ الإنساني.

سيؤثّر ذلك إيجابًا على الاعتزاز بالهوية الإسلامية والعربية والشرقية لتعودَ وتطفو مجدّدًا على النفوس، وفي ظلّ أي تحوّلات كُبرى سيكون المهاجرون أكثر انخراطًا في مصلحة المنطقة على حساب جنسيّاتٍ منحتها لهم تلك الدّول.

تأسيسًا على كل ما تقدّم، فإنّ الرهان على الصَّبر، والتخطيط الحكيم معًا، وتنويع جبهات الحرب، لتجتذب الساحات الأخرى غير العسكرية إلى المواجهة، سيقلب الميمنة على الميسرة في مساحة العالَم اليوم، وسيكون تحرير الإنسان من آثار زراعة الكيان الصهيوني في قلب منطقتنا العربية والإسلامية، بموازاة تحرير الأرض إن لم يفقْه..
إنّ المعركة اليوم هي معركة تحرير العالَم من أخطر أثرٍ من آثار الحربين العالميّتين الأولى والثانية، وهو الذي طبع المرحلة بكلّ ألوان الشرّ، فقط دفاعًا عن كيانٍ لا يستحقُّ أن تبذل البشريّة لأجل بقائه هذه الأثمان الباهظة، حتّى بمنطق المصلحة.
 
السيّد جعفر فضل الله
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير