24/03/2025

الوصايا الأخيرة لأميرِ المؤمنين (ع) قبلَ استشهادِه

الوصايا الأخيرة لأميرِ المؤمنين (ع) قبلَ استشهادِه

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين…


الخطبة الاولى  :
 
 
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207]
صدق الله العظيم.

 

ذكرى الفاجعةِ الكبرى

 

في هذا اليوم، وفي الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك، نستعيد الفاجعة الكبرى الَّتي ألـمَّت بالمسلمين جميعاً باستشهاد أمير المؤمنين (ع)، والمنحدر الَّذي وصلت إليه الأمَّة، بأن يقتل فيها مثل أمير المؤمنين (ع) على يد عبد الرَّحمن بن ملجم، بسيفه المسموم الغادر الّذي نزل على رأسه الشَّريف، وهو قائم في محرابه يصلّي بالنَّاس صلاة الفجر في مسجده بالكوفة.

 

كان يوماً عصيباً على المسلمين، هزَّ مشاعرهم، وأدمى قلوبهم، وأبكى عيونهم، حين رأوا إمامهم الَّذي ملأ حياتهم علماً وعملاً وجهاداً وبذلاً وعطاءً وحبّاً لهم، مسجَّى أمامهم.

 

لكنَّ هذا الحزن الَّذي لفَّ الأمَّة من أقصاها إلى أقصاها، لم يكن كذلك عند أمير المؤمنين (ع)، كان هذا اليوم بالنّسبة إليه يوم إعلان الفوز في رحلة الحياة الَّتي عاشها، والَّتي أفناها في طاعة الله وابتغاء مرضاته منذ أن فتح عينيه عليها إلى أن غادرها، والَّتي توّجت بالشَّهادة، فهو لأجله عانى وتألَّم وواجه التحدّيات وتحدَّى الصعوبات، وعادى لأجله القريب والبعيد، حتَّى قال: “ما ترك لي الحقّ من صديق”، شهد له بذلك الله سبحانه عندما قال عنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.

 

الوصايا الأخيرة

 

ورغم الجرح الَّذي أصابه، لم يشأ الإمام أن يغادر الدّنيا قبل أن يودع فيها وصاياه. في البداية، توجَّه إلى سجَّاني قاتله عبد الرَّحمن بن ملجم، فدعاهم أن لا يتصرَّفوا معه بوحي انفعالهم والجرح الَّذي أصابهم بفقده بعيداً من قيم الإسلام، رغم فداحة ما قام به وقسوته، عندما غدره بسيفه المسموم، مستبيحاً دمه وحرمة بيت الله عزَّ وجلَّ والصَّلاة وشهر رمضان، فقال لهم: “أطعِموه من طعامي، واسقُوه من شرابي، وألينوا فراشه، وأحسنوا أساره“، وبهذا يحدّد الإمام الصّورة الَّتي نعامل بها الأسير، أيّ أسير.

 

بعدها، دعا (ع) عشيرته بني عبد المطَّلب، ليحذّرهم من الخروج عن جادة العدل حتَّى لو كان الأمر يتعلَّق به، وأن لا يتعاملوا مع قاتله بالمنطق العشائريّ الَّذي لا يكتفي بقتل القاتل، بل يقتل كلَّ من له صلة به، أو من يوازي المقتول في موقعه، فهو أراد أن يثبِّت، وبالأمر الَّذي يتعلَّق به المنطق الإسلاميّ، أنَّ القاتل فقط هو من يُقتَل عندما يراد الاقتصاص، مهما علا موقع المقتول، وحتَّى بالأسلوب نفسه الَّذي قتل به لا زيادة في ذلك واستباحة للدَّم، فقال: “يا بني عبد المطَّلب، لا ألفينَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قُتل أميرُ المؤمنين، ألا لا يُقتلنَّ بي إلّا قاتلي. انظروا إذا أنا مِتُّ من ضربتِهِ هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثِّلوا بالرَّجل؛ فإنِّي سمعت رسول ‏اللَّه (ص) يقول: إيَّاكم والمُثْلَةَ ولو بالكلب العقور”، وهو بذلك قدَّم أنموذجاً في العدل حتَّى مع قاتله.

 

بعد ذلك، توجَّه بوصيَّته إلى ولده الإمام الحسن (ع)، ومن خلاله إلى أهل بيته وكلّ من بلغه كتابه، وقد عبَّر من خلالها عمَّا كان يهمّه، وما يريد له أن يتحقَّق لدى كلّ الذين ينتمون إليه أو يتولّونه، فقال: “أوصيك يا حسن، وجميع أهل بيتي وولدي، ومن بلغه كتابي، بتقوى الله ربّكم، ولا تموتنّ إلَّا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامَّة الصَّلاة والصّيام، وإنَّ المبيرة الحالقة للدّين، فساد ذات البين، ولا قوَّة إلّا بالله العلي العظيم”. ثمَّ قال: “انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم، يهوّن الله عليكم الحساب. الله الله في الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (ص) يقول: من عال يتيماً حتّى يستغني، أوجب الله عزَّ وجلَّ له بذلك الجنَّة، كما أوجب لآكل مال اليتيم النَّار.

 

اللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ، لاَ يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُم.

 

اللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ، فإنَّ رسول الله (ص) أوصى بهم ومَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ.

 

اللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ – في المسجد – لاَ تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا.

 

اللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهَا خيرُ العملِ، إنَّها عَمُودُ دِينِكُمْ.

 

اللهَ اللهَ في الزَّكاة، فإنَّها تطفئُ غضبَ ربِّكم.

 

اللهَ اللهَ في صيامِ شهرِ رمضانَ، فإنَّ صيامَهُ جُنَّةٌ من النَّار.

 

اللهَ اللهَ في الفقراءِ والمساكينِ، فأشركوهم في معايشِكم.

 

وَاللهَ اللهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ

 

الصَّلاة الصَّلاة الصَّلاة، لا تخافوا في الله لومةَ لائم، يكفكم الله مَن آذاكم وبغى عليكم. قولوا للنَّاس حُسناً كما أمركم الله. قولوا للنَّاس حسناً، وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ والتّبادرِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ والتّفرّق.

 

ولا تَتْرُكُوا الأمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”.

 

وعندما بدأت تباشير انتقال الإمام من هذه الدّنيا إلى رحاب ربِّه، وقبلَ أن تفيضَ روحه الطَّاهرة إلى بارئها، أدارَ عينيه في أهل بيته كلِّهم وقال: “حفظَكم اللهُ من أهلِ بيتٍ، وحفظَ عليكم نبيَّكم، أستودعُكم اللَّه جميعاً، سدَّدكم اللَّه جميعاً… حفظَكم اللَّه جميعاً.. خليفتي عليكم اللَّه، وكفى باللَّه خليفة”.

 

وما زالَ يذكر الله ويتشهَّد الشَّهادتين… ثمَّ استقبل القبلة وقال: “أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله”.

 

الوفاءُ لعليّ (ع)

 

أيُّها الأحبَّة: ونحن نستعيد هذا اليوم الحزين الَّذي تهدَّمت فيه أركان الهدى، وانفصمت فيه العروة الوثقى، حين استُبيح دمُ أوَّل النَّاس إسلاماً، وباب مدينة علم رسول الله، ومن كان من رسول الله بمنزلة هارون من موسى، ومن عرفته ميادين الحرب في بدر وأُحد والأحزاب وخيبر، ومن أودعه رسول الله (ص) أمانةَ الإسلام من بعده، وقال عنه: “من كنْتُ مولاه فعَليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه”، ومن حمل أمانة الإسلام بعد وفاة رسول الله (ص)، فأقام العدل واستقامت به الأمور، حتَّى قال: “الذَّليل عندي قويّ عزيز حتَّى آخذ الحقَّ له، والقويّ العزيز عندي ضعيف حتَّى آخذ الحقَّ منه“، وقال للَّذين أرادوا له أن يثبّت دعائم حكمه بظلم المسلمين بأموالهم: “أتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْه، واللَّه لَا أَطُورُ بِه مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، ومَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً، لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ،  فَكَيْفَ وإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّه”، ولأجل ذلك عانى وتحمَّل الناكثين والقاسطين والمارقين.

 

نحن لن نكتفي في يوم استشهاده بأن نعبِّر عن حزننا وألمنا لما أصابه رغم حزننا عليه، بل سنحرص على أن ندخل إلى كلّ السَّاحات الَّتي دعانا إليها، وأن نكون أوفياء لما أوصانا به، بحيث لا يضيع الأيتام والفقراء والمعوَّقون وكلّ ذوي الحاجة بحضرتنا وبوجودنا، وأن نحسن مجاورة من جاورنا، وأن نقرأ القرآن ونعمل به، ونحفظ الصَّلاة لتنعكس أخلاقاً وعملاً في حياتنا وسلوكنا، ولا نخلي بيت ربِّنا ما بقينا، ونجاهد في سبيل الله بأموالنا وأنفسنا عندما ندعى إليه، وأن لا نقول إلَّا خيراً، ونتعاون على البرِّ والتَّقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان، ونعمل للعدل حتَّى لو كان العدل على حسابنا، ونقف في وجه الظَّالم حتى لو كان الظالم أقرب النَّاس إلينا، وأن نكون مع الحقّ ندور معه حيثما دار، وأن نقول عرفاناً بالجميل، وتعبيراً عن الوفاء لما قدَّم وضحَّى وما عمل لأجلنا، وحتى يصل الإسلام إلينا نقياً صافياً، ومن أعماق قلوبنا:

 

رحمك الله يا أبا الحسن، كُنْتَ لِلْكافِرِينَ عَذاباً صَبّاً، وَلِلْمُؤْمِنِينَ كَهَفاً وَحِصْناً، كُنْتَ كَالْجَبَلِ لا تُحَرّكُهُ الْعَواصِفُ.. شَأْنُكَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالرّفْقُ، وَقَوْلُكَ حُكْمٌ وَحَتْمٌ، وَأَمْرُكَ حِلْمٌ وَحَزْمٌ، وَرَأْيُكَ عِلْمٌ وَعَزْمٌ فِيْما فَعَلْتَ، وَقَدْ نَهَجَ بِكَ السَّبِيلُ، وَسَهُلَ بِكَ الْعَسِيْرُ، وَأُطْفِئَتْ بِكَ النَّيرانُ، وَاعْتَدَلَ بِكَ الدّيْنُ، وَقَوِيَ بِكَ الإِسْلامُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَبَقْتَ سَبْقاً بَعِيداً، وَأَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ تَعْباً شَدِيْداً، فَجَلَلْتَ عَنِ الْبُكاءِ، وَعَظُمَتْ رَزِيَّتُكَ فِي السَّماءِ، وَهَدَّتْ مُصِيْبَتُكَ الأَنامَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. رَضِينا عَنِ اللهِ قَضَاءَهُ، وَسَلَّمْنا لِلَّهِ أَمْرَهُ.. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ”.

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

 

الخطبة الثَّانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بالاستعداد لليلة القدر الكبرى في الثَّالث والعشرين من هذا الشَّهر المبارك، هذه اللَّيلة التي أودع الله فيها بركاته ورحمته وغفرانه، عندما جعل إحياءها يوازي ألف شهر، أي يعادل ثلاثاً وثمانين سنة.

 

وفيها تقدَّر مصائر العباد خلال سنة، من حياة وموت وخير وشرّ وسعادة وشقاء وصحَّة ومرض، وفيها ينزل الله ملائكته حتَّى تضيق بهم الأرض، ليبعثوا فيها السَّلام والأمن والطمأنينة.

 

فلنغتنم هذه الفرصة، بأن نكون حاضرين فيها، لا يشغلنا فيها شاغل مهما كانت أهميَّته، فلا أهميَّة فوق أهميَّة ما أودع في هذه اللَّيلة. فلنقبل فيها على الله كما يريدنا أن نقبل، بقلوب صفت من كلّ حقد وعداوة وبغض، وبألسن طاهرة، وبعمل خالص لوجهه، حتَّى يقبل دعواتنا وأذكارنا ونجاوانا وصلواتنا وابتهالاتنا

 

ولندع الله تعالى: “اللّهمَّ ووفّقنا في ليلة القدر لبلوغ أفضل حال تحبّ أن يكون عليها أحد من أوليائك وأرضاها لك، ثمَّ اجعلها لنا خيراً من ألف شهر، وارزقنا فيها أفضل ما رزقت أحداً ممن بلغته إيَّاها وأكرمته بها، واجعلنا فيها من عتقائك وطلقائك من النَّار، وسعداء خلقك، برحمتك ومغفرتك ورضوانك، يا أرحم الرَّاحمين”.

 

ومتى عملنا بذلك، سنكون أكثر وعياً ومسؤوليَّة وقدرة على مواجهة التّحدّيات.

 

المجزرة.. والدَّعم المطلوب

 

والبداية من المجزرة الَّتي ارتكبها العدوّ في غزَّة قبل أيَّام ولا تزال مستمرَّة، والَّتي أدَّت إلى سقوط مئات الشّهداء، وجلّهم من النساء والأطفال وكبار السّنّ، وهم في أماكن سكناهم، في وقت كانوا يعتقدون نهم في أمان من غدر هذا العدوّ، بعد اتفاق وقف إطلاق النار، والذي جرى برعاية دولية وعربية.

 

لقد جاء هذا العدوان ليكشف مجدَّداً عدم احترام هذا العدو للاتفاقات التي تجري معه، وللمواثيق الدولية ولحقوق الإنسان، وهو يهدف من ورائه لاستكمال مشروعه الَّذي بدأه قبل خمسة عشر شهراً للاستيلاء على غزة، وخلق الظّروف لتهجير أهلها، والذي يواصله في الضفَّة الغربية من خلال اقتحاماته المتكررة لمدنها ومخيماتها.

 

وهي السياسة التي يعتمدها في أكثر من ساحة عربية، والتي يريد منها إخضاع المنطقة، وأن تكون له اليد الطّولى فيها، والتي يعلن، ومن دون مواربة، أنها لن تتوقف ما لم يتحقق الانصياع لما يريده من مطالب أمنية وسياسية، سواء في لبنان أو سوريا، والتي يمكن أن تتمدد إلى بلدان أخرى، حتى تلك التي طبعت معه.

 

إننا أمام كل ذلك، نحيّي الصمود المتواصل للشعب الفلسطيني رغم الجراح التي يعانيها والذي نرى أنه سيمنع الكيان الصهيوني من تحقيق مشروعه بإنهاء القضيَّة الفلسطينيَّة.

 

ونحن هنا نجدّد دعوتنا إلى الوقوف مع هذا الشعب في معركته هذه، وعدم تركه وحيداً ليواجه هذا الكيان والداعمين له. وهنا نحيّي اليمن الذي لا يزال يصرّ على مؤازرته لهذا الشَّعب، وهو يقدم لأجل ذلك التضحيات الجسام في هذا الطريق، والتي شهدناها فيما يتعرَّض له من العدوان الأميركي المستمر عليه.

 

في الوقت الَّذي نجدد دعوتنا الدول العربيَّة والإسلاميَّة إلى وعي نتائج المخطَّط الصهيوني للسيطرة على مقدّرات المنطقة وتداعياته وآثاره ونتائجه عليها وعلى هذه الأمَّة وعزتها وحرية قرارها، والاقتناع بأن لا سبيل لإفشال ذلك إلا بتعزيز التضامن العربي والإسلامي، وتوحيد الصّفوف، واستنفار كلّ عناصر القوَّة التي تملكها هذه الأمَّة، للوقوف معاً لمنع العدوّ من الاستفراد بكلّ بلد على حدة، بما يتيح حفظ الحدّ الأدنى من استقلال دولنا واستقرارها.

 

ونحن دائماً نؤكّد أنّ العالم العربي والإسلامي ليس ضعيفاً إن اجتمعت قواه، فهو يملك الكثير من عناصر القوَّة التي يستطيع من خلالها أن يضغط على هذا الكيان وكلّ الداعمين له، ومع هذا العدوّ، لن تنفع بيانات الإدانة والاستنكار، ولا بيانات القمم العربية والإسلامية، بقدر ما تؤثر المواقف التي تضغط في السياسة والاقتصاد والأمن.

 

الضّغطُ على لبنان

 

ونصل إلى لبنان، الَّذي يستمرّ العدو فيه بعمليَّات الاغتيال والاستهداف لشخصيات ومواقع، وآخرها الغارات التي شنَّت على الجنوب والبقاع، من دون أيّ رادع أو موقف من الدول الكبرى أو اللّجنة التي أخذت على عاتقها ضمان تطبيق وقف إطلاق النار والإشراف على تنفيذ بنوده، وهم قادرون، لو أرادوا، على ثني هذا العدوّ عن الاستمرار في اعتداءاته وخروقاته التي تؤدّي إلى سقوط دماء وشهداء، وهذا الصَّمت الدوليّ هو الّذي يسمح لهذا العدوّ بالاستمرار في مخطَّطه، والَّذي أصبح من الواضح أنَّه يهدف إلى الانصياع لإقامة مفاوضات مباشرة معه، تفضي إلى اتفاقات سياسية وأمنية، وهو ما عبَّر عنه مسؤولو هذا الكيان وأكثر من مسؤول أميركي، بالقول إنَّ لبنان لن يتمكَّن من إعمار مناطقه المهدَّمة في الجنوب والضاحية والبقاع، وهو لن يحظى بأيّ مساعدات أو بالأمن والاستقرار، وإعادة المواقع التي احتلها، والتي سيطر عليها، إلا بهذه المفاوضات، والتي من الواضح أنها ستكون بشروط هذا العدوّ، وعلى حساب أمن البلد وسيادته، لكونها تأتي في ظل ضغوط متواصلة، واختلال موازين القوى معه، بفعل الدعم الدولي والصَّمت العربي الذي يحظى به، وحرية الحركة التي أعطيت له.

 

إنَّ كلَّ ذلك يدعو إلى موقف لبناني موحَّد في مواجهة ما يجري، إن على الصَّعيد الرسمي والدبلوماسي، أو على الصعيد الشَّعبي، حيث المطلوب استحضار كلّ عناصر القوَّة التي يملكها هذا البلد، والتي ندعو إلى عدم التفريط بأيّ عنصر منها في هذه المرحلة، بعد أن أصبح واضحاً أن الدبلوماسية مهما عظمت قدراتها وعلت، لن تستطيع أن تؤدي دورها، إن لم تستند إلى عناصر القوة ووحدة الموقف.

 

تعزيزُ الأمنِ بين البلدين

 

ونبقى في لبنان، لنثمّن الهدنة الَّتي جرت على الحدود اللّبنانيَّة السّوريَّة، والَّتي نأمل أن تتعزَّز، وأن تزال أسباب الأزمة الأخيرة وتعالج تداعياتها، والتي أدَّت إلى نزوح عدد كبير من اللبنانيين الذي هجّروا من قراهم، أو الذين تعرَّضوا لأضرار في الممتلكات والأرواح، حتى لا يستمرَّ هذا الجرح النازف بين لبنان وسوريا، ويتم استعادة العلاقة الأخوية بينهما، والتي تضمن الأمن في هذه المنطقة الحدوديَّة، وتمنع كل من يريد العبث بهذه العلاقة ومن لا يريد خيراً بالبلدين.

 

تحيّة للأمّهات

 

وأخيراً، إنّنا في عيد الأمّ، نتوجَّه إلى كلّ أمّهاتنا اللّاتي يملأنْ حياتنا عطفاً وحبّاً وحناناً ورعايةً وتضحية، بالشّكر والتّقدير والامتنان على ما بذلن ويبذلن، ولن نستطيع أن نبادلهنّ جميلهنّ بجميل، مهما قدّمنا وفعلنا لهنّ. فهنيئاً لكلّ أمّ بما قدَّمت وتقدّم وستقدّم.. يكفيها أنّ الجنّة تحت قدميها، وهنيئاً لكلّ من قدّر هذا العطاء، وعمل على مكافأته بكلّ ما يملك، والويل لمن قصَّر في ذلك.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير