16/12/2024

ثقةُ المؤمنِ بقضاءِ الله واختيارِه

ثقةُ المؤمنِ بقضاءِ الله واختيارِه

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}[البيّنة: 7-8]. صدق الله العظيم.

 

الثقةُ بقضاءِ الله

 

من أبرز الصّفات التي تميِّز الإنسان المؤمن، إحساسه برضاه بكلّ ما يرد عن الله سبحانه وما يختاره له ويقضي به عليه، فلا يمكن للمؤمن أن يكون ساخطاً على ربّه، حتى لو كان ما يرد منه أو قضى به عليه وما يختاره له يتسبَّب له بالحزن والتعب والمشقَّة والألم، فهو يحمده في السرَّاء والضّرَّاء، وعند الشدَّة والبلاء.

 

وإلى هذا أشار الحديث، أنَّ رسول الله (ص) لقي في بعض أسفاره ركباً، فقالوا: “السَّلام عليك يا رسول الله، فقال لهم: ما أنتم؟ قالوا: نحن مؤمنون، قال: فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا: الرّضا بقضاء الله والتَّسليم لأمر الله والتَّفويض إلى الله تعالى… قال رسول الله (ص): علماء حكماء، كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء”.

 

وفي الحديث: “اعلموا أنّه لن يؤمن عبد من عبيده، حتّى يرضى عن الله فيما صنعَ الله إليه وصنعَ به على ما أحبّ وكره”.

 

وفي الحديث: “رأس طاعة الله الصَّبر، والرِّضا عن الله فيما أحبَّ العبد أو كره، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحبَّ أو كره، إلَّا كان خيراً له فيما أحبَّ أو كره”.

 

وفي الحديث: “من اتّكل على حُسن الاختيار من الله له، لم يتمنّ أنّه في غير الحال التي اختارها الله له”.

 

والرضا بقضاء الله هو نتاج معرفة الإنسان بربِّه، والثقة بأنَّه لا يريد بعباده إلَّا خيراً، وأنَّ اختياره له أهمّ من اختياره لنفسه.

 

وهذا ما أشار إليه الحديث القدسيّ، “أنَّ الله عزَّ وجلَّ أوحى إلى موسى (ع)، فقال له: ما خلقت خلقاً أحبَّ إليَّ من عبدي المؤمن، فإنّي إنّما أبتليه لما هو خير له، وأُعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه ما هو شرّ له لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليرض بقضائي، وليشكر نعمائي، أكتبه في الصدِّيقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري”.

 

لكن الحديث عن الرضا بقضاء الله لا يعني كما قد يفهم البعض الاستسلام لواقع يمكن تغييره وعدم الأخذ بالأسباب، كالتَّداوي من مرض، والسعي إلى رزق، أو دفع ضرر، أو مواجهة ظلم أو فساد، بل يأتي بعد استفراغ الجهد في العمل لكلّ ذلك، عندما لا يوفَّق لبلوغه، أو لا يحصل بالصورة التي يريدها، فهو إذاً يرد في الأمور التي لا يمكن تغييرها، أو التي هي خارجة عن إرادته.

 

تعزيزُ القيمةِ في حياتنا

 

أيُّها الأحبّة: إننا أحوج ما نكون إلى تعزيز هذه القيمة في الحياة؛ أن نرضى عن الله على كل حال، أن نرضى عنه في البلاء كما في الرخاء، وعند نقصان الجسد كما عند كماله، وعند وفور النعمة كما عند نقصانها، وعند الضعف كما عند القوَّة.

 

ومتى ترسَّخت هذه القيمة الإيمانيَّة في النفس، فإنها تحدث عنده سكينة وأماناً وطمأنينة وراحة بال، تجعل الإنسان راضياً عمَّا هو عليه وتنفي عنه الحزن.

 

وهذا الرّضا هو الَّذي عبَّر عنه رسول الله (ص)، حيث ورد عنه، أنَّه لما توفي ولده إبراهيم، والذي كان متعلّقاً به، في عمره السَّنتين، توجَّه يومها إلى الله عزّ وجلّ، والدموع تنهمر من عينيه، قائلاً: “لبَّيك وسعديك، والخير في يديك، والشّرّ ليس إليك”، ثمَّ قال: “تَدْمَعُ العَيْنُ، وَيَحْزَنُ القَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا ما يَرْضَى الله”.

 

أعبدُ النّاس

 

وقد عبَّر عن ذلك النبيّ موسى (ع) في حديثٍ ورد عنه، حين قال: “يا ربّ، أرني أحـبَّ خلقك إليك وأكثرهم لك عبادةً… فأمره الله سبحانه أن ينتهي إلى قرية على ساحل بحر، فوجد هناك رجلاً مصاباً بمرض الجذام، ومقعداً وكفيفاً، وهو يسبِّح الله ويحمده ويشكره ويثني عليه… فقال موسى (ع) لجبريل: أين الرَّجل الذي سألت ربي أن يُرِيني إيَّاه؟ فقال جبريل: هو هذا الَّذي تراه يا كليم الله. فقال موسى (ع): إني كنت أحبّ أن أراه صوَّاماً قوّاماً! فقال له جبريل: هذا أحبّ إلى الله تعالى وأعبد له من الصوَّام القوَّام، وإن كان يقوم ويصوم… هذا الرَّجل الآن ذهبت عيناه، وأصبح كفيف البصر، أصغ إليه حتى تسمع منه بما يدعو الله بعدما بلغ هذا الحال. فسمعه يقول: متَّعتني بهما حيث شئت، وسلبتني إيَّاهما حيث شئت، وأبقيت لي فيك طول الأمل بك، والقدرة على أن أدعوك وأناجيك وأبتهل إليك، يا بارّ يا وصول

 

فقال له موسى (ع): يا عبد الله، إني رجل مجاب الدَّعوة، فإن أحببت أن أدعو لك الله تعالى يردّ عليك ما ذهب من جوارحك، ويبريك من العلَّة، فعلت… فقال الرَّجل: لا أُريد شيئاً من ذلك، اختياره لي أحبّ إليَّ من اختياري لنفسي…”، إلى أن قال موسى (ع) متعجّباً: “هذا أعبد أهل الدّنيا”.

 

وهو الَّذي عبَّرت عنه السيِّدة زينب (ع)، ونختم بحديثها، وهو حديث أمّها وأبيها وجدها وبنيها، عندما قال لها ابن زياد بعد معركة كربلاء: كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ الله بِأَخِيكِ وَأَهْلِ بَيْتِكِ؟ فَقَالَتْ: “مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ الله بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِـمَنِ الْفَلْجُ (الظفر) يَوْمَئِذٍ”.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

الخطبة الثّانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله سبحانه وتعالى، عندما قال لرسوله (ص): {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}، حيث دعا الله سبحانه وتعالى رسوله (ص) إلى أن يدعو الناس إلى أن يختاروا في حديثهم مع الآخرين أحسن الكلام، الكلام العقلاني الهادئ والرَّصين الذي لا يستفزّ الآخر أو يثير انفعاله ويؤدّي إلى توتيره.

 

إننا أحوج ما نكون إلى هذا الكلام في ظلّ أجواء التوتر التي نعيشها، إن على الصعيد الطائفي أو المذهبي أو السياسي، لنتجنَّب بذلك الفتن التي يراد لها أن تعصف بواقعنا، وتضعف أي موقع من مواقع القوَّة لدينا، ونكون بذلك أقدر على مواجهة هذه التحديات.

 

انتهاك العدوّ للاتّفاق

 

والبداية من العدوان الصهيوني المستمرّ على لبنان، حيث يواصل العدوّ خرقه لاتّفاق وقف إطلاق النار، وذلك باستهدافه المدنيّين وهم في بيوتهم أو في أثناء تنقّلهم، أو عبر طلعاته الجويَّة التي تجوب المناطق اللبنانيَّة، وصولاً إلى العاصمة وضواحيها، وفي منع الأهالي من العودة إلى قراهم حتى تلك التي عجز عن احتلالها، أو في مماطلته في الانسحاب من القرى التي احتلَّها والسماح للجيش اللبناني بالانتشار فيها تنفيذاً للاتفاق الذي تمَّ التوافق عليه، وهو ما شهدناه مع بداية المرحلة الأولى التي جرت في مدينة الخيام… يأتي ذلك في ظلّ مواقف رئيس وزراء العدوّ بأنه سيعمل وفق ما تمليه مصالح كيانه وحساباته، وتشديده على أنَّ الاتفاق يمنحه الحقّ بأن يستهدف أيَّ مكان يرى فيه تهديداً لأمنه.

 

ونحن أمام ما يجري، نعيد دعوة اللّجنة المكلَّفة بتنفيذ وقف إطلاق النار، إلى أداء دورها كاملاً على هذا الصّعيد، والقيام بمسؤوليَّتها بالتَّطبيق لبنود هذا الاتفاق، وعدم التَّعامل معه بمعايير مزدوجة، واتخاذ الإجراءات الصَّارمة الَّتي تمنع العدوّ من الاستمرار في خرقه لوقف إطلاق النار.

 

للإسراع في إزالة الرّكام

 

وفي هذا الإطار، ندعو الحكومة اللبنانية التي اجتمعت أخيراً في مدينة صور، إلى تنفيذ القرارات التي تضمن الإسراع في رفع الركام الهائل الَّذي يغطِّي مساحات كبيرة في الضاحية والجنوب والبقاع الأقصى الّذي لا يزال يشهد بطئاً مع كلِّ التبعات الّتي قد تحصل من وراء ذلك، وفي العمل على مسح الأضرار في المباني والمؤسَّسات، تمهيداً لتقديم المساعدات التي تضمن للمتضرّرين العودة إلى أماكن سكناهم، وتوفير الإيواء لمن فقدوا بيوتهم إلى حين إعمارها، وعدم إبقاء ذلك على عاتق البلديات التي لا تمتلك الإمكانات المادية والبشرية أو القدرات للقيام بهذا الدور، أو على الجهات المعنية التي تقوم بدورها، في ضوء ما تمتلكه من إمكانات

 

انتخابُ رئيسٍ بمستوى المرحلة

 

في الوقت الَّذي نجدِّد دعوتنا القوى السياسية إلى توفير الظروف التي تضمن انتخاب رئيس للجمهورية في الموعد المحدَّد له وعدم تأخيره في ظلّ الحاجة إلى تأمين هذا الاستحقاق، والذي بات ملحاً في هذه المرحلة، للتداعيات السلبية في استمرار الفراغ على صعيد بناء مؤسّسات الدولة واستقرارها، ونحن نريد لهذا البناء أن يكون على مستوى متطلبات هذه المرحلة وتحدياتها ومخاطرها، والقادر على إدارة سفينة هذا البلد وإخراجه من المآزق التي يعانيها.

 

ولكن هذا، وكما بات واضحاً، لن يحصل إلا إذا وعى الجميع خطورة هذه المرحلة، وقرروا الخروج من حساباتهم الخاصَّة ومصالحهم الفئويَّة ورهاناتهم، وفكَّروا في مصلحة هذا البلد ومصلحة إنسانه الَّذي لم يعد قادراً على تحمّل المزيد.

 

الوحدة في مواجهة التحدّيات

 

فيما نجدِّد دعوتنا اللبنانيّين إلى الوحدة لمواجهة أعباء هذه المرحلة والتحديات التي تنتظرهم، إن على صعيد الداخل، حيث يعاني على المستوى الاقتصادي والأمني وعلى مستوى إعمار ما تهدَّم، أو على صعيد ما يجري في المنطقة، حيث يُعمل على رسم خرائط جديدة لها لن يكون لبنان بمنأى عن تداعياتها، وذلك بالابتعاد عن كلّ ما يؤدّي إلى توتير العلاقات فيما بينهم.

 

لذا نقول لكلّ من لديه كلمة طيّبة تؤدي إلى خير هذا البلد أن يطلقها، وكلّ من لديه كلمة تؤدي إلى التشنج أو إلى إثارة حساسيات أن يكتمها ليوفّر على البلد مضاعفاتها.

 

لقد تعب البلد من الفتن والتوترات وإثارة الحساسيات، وقد آن لهذا البلد أن يستقرّ ويرتاح، وأن لا يكون صدى للآخرين ولكلّ من لا يريد خيراً به

 

التطوّرات السورية

 

ونصل إلى سوريا التي تشهد مرحلة جديدة على الصعيد السياسي، وهي بذلك تطوي مرحلة حكمت هذا البلد لعقود من الزَّمن.

 

إنَّنا نأمل أن تأتي التطوّرات لما فيه مصلحة الشعب السوري وخيره، وبأن يتحقَّق له الأمن والأمان والسَّلام والعدالة والوئام بين مكوّناته وطوائفه ومذاهبه وأعراقه.

 

وإننا إذ نرى الإيجابية في الدعوة إلى التعاون والتكاتف والتلاحم والانصهار بين مكوّناته التي صدرت عن الجهات المعنيّة، نأمل أن تترجم على أرض الواقع لوقايته مما يخشى عليه من التقسيم والفتن الطائفية والمذهبية والقومية أو الفوضى.

 

إننا نريد لسوريا أن تبقى رائدة على الصعيد العربي والإسلامي وتؤدّي دورها فيه، وأن تعي مدى خطورة العدوّ الصهيوني الذي يجب أن تكون البوصلة دائماً في اتجاه العداء له والتصدّي لمطامعه في أرضها وثرواتها ولمشاريعه التفتيتية، وهو سارع منذ اليوم الأول لوصول النظام الجديد إلى استهداف مقدّرات هذا البلد وتدمير كلّ عناصر القوَّة فيه، على نحو غير مسبوق، وفي ظلّ صمت مطبق، بما يعيق قيامه ونهوضه وتطلّعه إلى استعادة وحدته وسيادته على بلده، ودوره الطليعي والفاعل في هذه المنطقة.

 

خطّة الوطن البديل

 

وأخيراً، نؤكّد ضرورة أن لا ننسى الشعب الفلسطيني الّذي لا يزال يقاوم العدوّ في قطاع غزَّة، ويكبّده الخسائر رغم كلّ الكوارث التي حلَّت به، وخصوصاً أنَّ العدوَّ قد يعمل على الاستفادة من كل التطوّرات في المنطقة، ليضاعف من ضغطه على هذا الشعب، لدفعه للتهجير من الضفة أو غزة إلى الأردن، بوصفها الوطن البديل للفلسطينيين الذي يسعى الإسرائيليون لتحقيقه، وهو ما ينبغي للجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي أن يواجها ويحولا دون تحقيقه.

13-12-2024
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير