28/06/2024

قصَّة المباهلة بين الرَّسولِ (ص) ووفد نجران وأبعادها

قصَّة المباهلة بين الرَّسولِ (ص) ووفد نجران وأبعادها

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين…

وجاء في خطبته الاولى :

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}. صدق الله العظيم.

 

ذكرى المباهلة

 

نستعيد في الرَّابع والعشرين من شهر ذي الحجَّة من السنة العاشرة للهجرة، حدثاً مهمّاً في التَّاريخ الإسلامي، وهو اليوم الَّذي باهل فيه رسول الله (ص) نصارى نجران. ونجران كانت تمثِّل آنذاك مركز الدّيانة المسيحيَّة في الجزيرة العربيَّة، وقد زاد من أهميَّته حين اعتبر يوماً عباديَّاً، فيه العديد من الأعمال الَّتي لا بدَّ من الحرص عليها.

 

وقد حدث ذلك عندما أرسل رسول الله (ص) كتاباً إلى أسقف نجران، أبو حارثة بن علقمة، وإلى أهلها، يدعوهم فيه إلى الإسلام، وقال فيه: “بسم إله إبراهيم وإسحاق ويَعقوب، من مُحمَّد رسول اللّه، إلى أسقُف نَجران وأهل نَجران”، ثمَّ تلا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ…}. “أمَّا بعد، فإنِّي أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد، وأدعُوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد…”.

 

يومها، استجاب أسقف نجران لدعوة رسول الله (ص)، وأرسل من عنده وفداً مؤلَّفاً من ستّين شخصاً من كبار رجالات الكنيسة، للتعرّف إلى هذا الدّين، وللحوار مع رسول الله (ص)، فاستقبلهم (ص) في مسجده في المدينة المنوَّرة، وهو ما يعزِّز الرأي الفقهيّ الَّذي يقول أن لا مانع من دخول أهل الكتاب إلى المساجد.

 

الحوارُ معَ الوفد

 

بعدها، جرى الحوار الَّذي بدأه رسول الله (ص) بالإشارة إلى أنَّ ما جاء به من رسالة، يأتي في سلسلة الرّسالات السماويَّة: {قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.

 

ثمَّ أوضح أنَّ الأنبياء الَّذين أرسلهم الله إلى النَّاس ليبلّغوا رسالة ربّهم، هم بشر لهم كلّ صفات البشريَّة، وفي ذلك الكرامة لهم، وبأنَّ لهم علاقة بالله بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عبر الوحين وأنّ هذا ما ينطبق على السيِّد المسيح (ع)، الَّذي تحدَّث عن نفسه يوم تكلَّم في المهد، أنَّه عبد الله ورسوله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}.

 

هنا، تدخّل رئيس وفد نصارى نجران قائلاً: لكنَّه ابن الله، وإذا لم يكن ابن الله، فهو ابن مَنْ؟ فتلا النَّبيّ (ص) قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}… وقد تجلّت قدرة الله في ولادته، عندما أوجده من أمّ دون أب، ومثله في ذلك مثل آدم (ع): {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. فلو أنَّ ولادته من دون أب تستوجب أن يكون ابناً لله، فآدم أولى بذلك، لأنّه خلق من دون أب وأمّ.

 

عندها قال رئيس الوفد: إذا كنت تقول عن السيِّد المسيح إنّه عبدٌ لله، وإنَّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلَّا بأمر الله، ولكن ألم يكن يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وينبئ النَّاس بما يأكلون ويدَّخرون؟ فهل يستطيع أن يفعل ذلك إلَّا مَنْ تجلَّت فيه صفات الألوهيَّة؟ فقال رسول الله (ص) إنَّ ما جرى من السيِّد المسيح هو معاجز، شأنه في ذلك شأن الأنبياء، يظهرها الله على أيديهم، حتَّى يثق النَّاس الذين أرسلوا إليهم بأنَّهم مبعوثون من عند الله، فهي ليست تعبيراً عن قدرات شخصيَّة. وقد حرص الله سبحانه تعالى في حديثه عن معجزات السيِّد المسيح (ع) أن يذكر أنّها كانت بإذنه، حتَّى لا يعتقدنَّ أحد أنَّها قدراته، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

 

الاحتكامُ إلى المباهلة

 

وطال النقاش، واستمرَّ الحوار، ووفد نصارى نجران يسأل عمّا يجيش في صدره، والرَّسول (ص) يقدِّم إليهم البراهين الدالَّة والشَّواهد الثّابتة، حتَّى بان أخيراً أن لا أحد في الوفد يريد أن يقرّ بالحقيقة الَّتي دعا إليها رسول الله (ص).

 

وبعدما رأى رسول الله (ص) عدم رغبتهم في الانصياع لمنطقه، دعاهم إلى ما دعاه الله إليه من الاحتكام إلى المباهلة. والمباهلة تعني أن يجتمع الفريقان المختلفان، فيضرع كلٌّ منهما إلى الله عزَّ وجلَّ أن ينزل عذابه على من يرى الحقيقة عند الآخر، ورغم ذلك يخالفها، وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ}.

 

وفوجئ نصارى نجران بطلب رسول الله (ص)، إذ لم يكن في حسابهم أن يخضعوا لهذا الامتحان، ولكن ما كان من خيارٍ لهم إلَّا أن يوافقوا، لذا قالوا: أنصَفْتَ يا أبا القاسم، فإنَّ المباهلة آية معجَّلة بيننا وبينك.

 

وانفضَّ الاجتماع، وذهب وفد نجران يتفكَّرون فيما يصنعون، فقال رئيس الوفد: قد جاءكم الرّجل بالفصل من أمره وأمركم، فانظروا بمن يباهلكم، فإن باهلكم بالكثرة وذوي الشدَّة، وهذا صنع الملوك، باهلناه، لأنَّه بذلك يزيد الضغط علينا نفسياً حتَّى يؤثِّر في موقعنا، وإن أتانا بنفرٍ قليلٍ من صحابته، أو من أهل بيته خاصَّة، كما هي سجيّةُ الأنبياء، فلا نُباهله، فإنّه لا يقدّم أهل بيته وكبار صحابته إلَّا وهو صادق، وهذه لكم أمارة.

 

المباهلةُ بأهلِ البيت (ع)

 

وفي الصَّباح، وبينما كانت الجموع تصطفّ للمباهلة، إذ بصوت يرتفع بالتّكبير، وإذا برسول الله (ص) قد قدم وهو يحتضن الحسين (ع)، وآخذاً بيد الحسن (ع)، وخلفه عليّ بن أبي طالب (ع) وفاطمة (ع)، وهؤلاء كانوا يمثّلونه في ما أشارت إليه آية المباهلة، فالحفيدان السبطان الحسن والحسين (ع) أشارت إليهما الآية بـ(أبناءنا)، وفاطمة (ع) أشارت إليها الآية بـ(نساءنا)، وعليّ (ع) بـ(أنفسنا).

 

تقدَّم النَّبيُّ (ص) إلى حيث نصارى نجران، وهو يقول لمن معه: “إذا دعوْتُ فأمِّنُوا”، ثم يرفع يَدَيْه نحو السَّماء، ويدعو الله سبحانه قائلاً: “اللَّهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي”.

 

ولما رأى نصارى نجران أنَّ هؤلاء الأربعة وحدهم ممن سيباهلُ بهم الرَّسول (ص)، أشار إليهم رئيسهم: والله إني لأَرَى وجُوهاً لو سألُوا ربَّهم أن يُزيل الجبلَ عن مكانِه لأجابَهُمْ وأَزَالَهُ، فلا تباهلوهم. وقرّروا أن لا يدخلوا في المباهلة، واتفقوا مع رسول الله (ص) على أن يبقوا على ما هم عليه، وعلى تنظيم العلاقة بينهم وبين الدولة الإسلاميَّة، باحترام قوانينها، على أن يضمن لهم حقوق المواطنيَّة وحريَّة المعتقد والعبادة، وأن لا يتدخَّل في تنظيم شؤونهم المدنيَّة والكنسيَّة.

 

أهميَّةُ الحادثة

 

أيُّها الأحبَّة: لقد جاءت هذه الحادثة لتثبّت مسألتين؛ أوّلاً، طبيعة العلاقة الَّتي أرادها الإسلام أن تحكم المسلمين بالمسيحيّين، وهي علاقة بناها الإسلام على المودَّة، عندما قال: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}، وعلى العمل سوياً في القواسم الإيمانيَّة المشتركة، وعلى أن يكون الحوار بعيداً من التوتر والانفعال، بل بالَّتي هي أحسن، كما قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

 

ولتشير، ثانياً، إلى أنَّ المباهلة – بمقاصدها – يمكن اعتمادها كأسلوب في العلاقة بين المختلفين، فعندما لا يصل الحوار بينهم إلى نتيجة، ويبقى كلُّ على موقفه، يَكلِون الأمر عندَ ذلك إلى الله، أن يتولَّى هو الأمر، ويعاقب الجاحد على جحوده، والمنكر للحقيقة على إنكاره. وهو أسلوب إن حصل، يساهم في التخفيف من التوتر

 

وأخيراً، إنَّ هذه الحادثة أشارت إلى موقع أهل البيت (ع)، فقد بيَّنت أنَّ الحسن والحسين (ع) هما ابنا رسول الله، في مقابل من كان يقول إنَّ أبناء البنت ليسوا أبناءه، وأنَّ الزهراء (ع) في شخصها هي سيِّدة نساء العالمين، وأنَّ عليّاً (ع) هو نفس رسول الله، وأنَّه المعبِّر عنه (ص)، وأنَّهم الَّذين نزلت فيهم الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

 

جعلنا الله من المهتدين بنهج رسول الله، ومن السَّائرين على هدى خطِّ أهل البيت الأطهار الأصفياء، والمهتدين بهديهم الّذي هو السَّبيل للوقاية من الانحراف والضَّلال.

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

 

الخطبة الثّانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة أمير المؤمنين (ع) لنا، والذي استعدنا يوم ولايته في الثامن من ذي الحجة، عندما قال: “أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُومٍ إِمَاماً يَقتَدِي بِهِ ويَسْتَضـِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اِكْتَفَى مِنْ دُنيَاهُ بِطِمرَيْهِ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاِجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ…”.

 

بهذا نعين عليّاً، وبهذا نعبِّر عن محبَّتنا وعن ولائنا له، ونستحقّ الانتماء إليه، وبهذا نكون أكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.

 

إجرامُ العدوِّ في غزّة

 

والبداية من غزَّة الَّتي يستمرُّ فيها العدوّ الصّهيونيّ بارتكاب مجازره، وممارسة سياسة التَّجويع والتَّدمير الممنهج لمعالم الحياة فيها، وهو يريد من وراء ذلك إتمام سيطرته وفرض هيمنته عليها، والَّتي يحاول أن يستكملها في الضفَّة الغربيَّة، تنفيذاً لخطَّته بالإجهاز على القضيَّة الفلسطينيَّة.

 

يجري ذلك في ظلِّ استمرار الدَّعم الذي لا يزال يحظى به هذا الكيان من الدول المؤيِّدة له، ولا سيَّما من الولايات المتحدة الأمريكيَّة، التي لا تزال تمدّه بالسّلاح والذخائر، وتؤمِّن له التغطية السياسيَّة والقانونيَّة التي تمنع المسّ به أو الإدانة لجرائمه الَّتي يندى لها جبين الإنسانيَّة، وهي وإن بدا أنَّها خفَّفت من دعمها، فذاك يأتي من باب ذرِّ الرَّماد في العيون، ولحسابات انتخابيَّة، بعد الضّغوط الَّتي باتت الإدارة الأميركيَّة تتعرَّض لها من الداخل. أمَّا العالم العربي والإسلامي، فلا يزال في حال الانكفاء عن أداء واجبه القومي والدّيني الَّذي يدعوه إلى الوقوف مع هذا الشَّعب، وتحمّل قدر من الأعباء الَّتي يئنّ تحت وطأتها.

 

في هذا الوقت، يستمرّ هذا الشَّعب في صموده ومقاومته، وهو يقدِّم في ذلك التضحيات الجسام التي تحول دون تمكن الكيان الصهيوني من تحقيق كلِّ أهدافه، واستعادة هيبته الَّتي فقدها في السَّابع من أكتوبر، وتزيد من مأزقه على الصّعيد السياسي والاقتصادي والأمني.

 

إنَّنا أمام ما يجري، نحيِّي صمود هذا الشَّعب وبسالة مقاومته الِّتي تقدِّم دروساً في البطولة والفداء، وفي القدرة على هزيمة هذا الكيان، ونجدِّد دعوتنا للوقوف معه وإسناده بكلِّ الوسائل، وعدم تركه وحيداً في معركته الَّتي يخوضها.

 

وهنا نقدِّر عالياً كلَّ الَّذين يؤدّون واجبهم بمساندة هذ الشَّعب، ويقدّمون التضحيات في هذا الطَّريق.

 

حربٌ تهويليّةٌ على لبنان

 

وإلى لبنان الَّذي تستمرّ المقاومة فيه ومعها شعبها، في أخذ خيار نصرة قضيَّة الشعب الفلسطيني، انطلاقاً من حسّها القومي والدّيني الَّذي يدعوها إلى نصرة المظلوم وتقديم الدَّعم له وعدم خذلانه، ومن حسِّها الوطني بأنَّ هذا الكيان إن هو استطاع أن يحقِّق أهدافه في فلسطين، فلن يتوانى في المرحلة المقبلة عن النَّيل من هذا البلد، وهو الَّذي يعدُّ العدَّة له ولا يزال، من خلال مناوراته الَّتي تحاكي الهجوم على مدن وقرى لبنانيَّة، وهو لم يكفَّ عن تهديده للبنان، كلّ لبنان.

 

وها هي المقاومة تقدِّم في كلِّ يوم الدَّليل تلو الدَّليل على مدى قدراتها التي كشفت بعضها ولم تكشف الكثير منها، ما يجعل هذا العدوَّ يهاب ذلك، وهو ما يعبِّر عنه القادة السياسيّون والعسكريّون الَّذين يدركون أنَّ خوض غمار هذه الحرب لن يكون نزهة لهذا العدوّ، وستكون كلفتها عليه باهظة، وقد تعمِّق هزيمته الَّتي يسعى للخروج منها. وإذا كنَّا بتنا نسمع حديثاً متنامياً ومتزايداً عن رغبة هذا العدوّ باجتياح لبنان أو مناطق أو مواقع فيه، فإنَّنا لا نزال نراه في إطار الحرب النفسيَّة التي يخوضها هذا العدوّ، والَّذي تردّ عليه المقاومة بالمثل، لعلَّه يستطيع من خلالها أن يكبح جماح المقاومة، وأن يحصل على تنازلات من لبنان تقدَّم لحساب أمنه وأمن مستوطنيه مما لم يستطع الحصول عليه في الميدان، وإن كنَّا ندعو إلى الحذر، والاستعداد الدَّائم لغدر هذا العدوّن والذي نخشى أن يغامر بحرب واسعة، واهماً أنَّه يستعيد بذلك هيبته وقدرة الرَّدع لديه.

 

إنَّنا أمام ما يجري، نعيد التَّأكيد على ضرورة عدم الانصياع للحرب التهويليَّة هذه وعدم الوقع في حبائلها، والأخذ بقوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً}.

 

وفي الوقت نفسه، نجدِّد دعوتنا بضرورة تعزيز الوحدة الدَّاخليَّة، وعدم السَّماح لأيِّ صوت يسيء إلى هذه الوحدة ويهدِّد مناعتها الَّتي تبقى هي الدَّعامة الأساس في مواجهة ما يجري..

 

إنَّنا لا ننكر أنَّ هناك اختلافاً حول العديد من القضايا الَّتي تتَّصل بالدَّاخل أو الخارج، لكنَّنا ندعو إلى التوحّد في هذه المرحلة العصيبة الَّتي يواجه فيها لبنان تحدّياً مصيريّاً لأمنه واستقراره وسيادته، وكما قلنا سابقاً، لا ينبغي أن يخرج منه ضعيفاً.

 

ومن هنا، نجدِّد دعوتنا للقيادات الدينيَّة أولاً، والسياسيَّة ثانياً، أن تكون أمينة على القيم التي تحملها، والكفّ عن كلِّ ما يهدِّد الوحدة الداخليَّة، أو المسّ بموقع من مواقع القوَّة في هذا البلد، والَّذي مهما كان الاختلاف معه، لا بدَّ من تقدير دوره في تحرير هذا البلد، في وقوفه في وجه من يتهدَّده، وتقديم التَّضحيات الجسام من أجله.

 

ذكرى رحيلِ السيِّد (رض)

 

وأخيراً، سنكون في الرَّابع من شهر تموز على موعد مع الذِّكرى الرَّابعة عشرة لرحيل السيِّد (رض) الَّذي عاش معنا كلَّ قضايانا وهمومنا، والَّذي رغم غيابه عنَّا، ما زلنا نرتوي بكلماته ومواقفه الَّتي تزرع فينا الإحساس بالعزَّة والحريَّة والكرامة، وعدم الرّضوخ والانكسار والهزيمة والذّلّ، وتمدّنا بالوعي والانفتاح، ونتغذَّى من معينه الرَّحب الَّذي تركه لنا زاداً، إن على صعيد الفكر أو الفقه أو الاجتماع أو السياسة أو الأخلاق، والرّيادة على صعيد المؤسَّسات، وفي خدمة الإنسان، كلِّ الإنسان.

 

إنَّنا ومن باب الوفاء لمن وفى لنا، والتزاماً منَّا بنهجه، وحرصنا على متابعة ما بدأ به، سنكون على موعد في الرَّابع من شهر تموز مع الاحتفال التَّأبيني الَّذي سيقام له، والَّذي ستكونون أنتم الدَّاعين له والحاثّين عليه والعاملين له.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير