انشغالات جبل عامل والأحداث التي عصفت به إلى اليوم مع استمرار العدوان الإسرائيلي، أدت في وجه من الوجوه إلى تناسي الماضي وتغييبه على مستوى إحياء التراث العاملي، ما خلا مبادرات فردية متواضعة الجهد والإمكانات. بهذا يكون قد غُيّب تاريخٌ متراكم وغني على مدار مئات السنين، ناهيك باحتمال اندثار أجيال قليلة تحمل تلك الذاكرة المحشوة بالقصص والأحداث، ومنها بوجه خاص ما يتصل بفنون الأدب والشعر العاملييْن.مؤسسة الشعر العاملي قديمة جداً كما يحلو للمؤرخ السيد حسن الأمين أن يقول في مستدركاته على «أعيان الشيعة ج1»: «فالمؤسسة الشعرية العاملية، وبشهادة النقاد والعاملين في تاريخ الأدب هي مؤسسة قديمة جداً، وأهم ما يميزها في هذا المجال هو واقع أنّ سنوات عمرها المديدة لم يصبغ نتاجها بالملل والتكرار، كما هي العادة غالباً حينما تكون المصادر الفنية لأجيال متلاحقة هي ذاتها أو قريبة التشابه».
صحيحٌ أنَّ المشارب الشعرية هي ذاتها وقريبة التشابه في عناصرها، إلا أن هناك عناصر شخصية تحاول بمهنية ودقة أن تخلق صوراً شعرية متجددة طافحة بالمشاعر الجياشة التي تولد لمحة شعرية خاصة، تاركةً بصمتها الراهنة التي لا تمحى من الذاكرة والوجدان.
أسماء وأسماء من الشعراء المرهفين التي تعكس أشعارهم أحوال مجتمع بأسره كان في لحظة ما متلبساً بالشعر والأدب، إلى درجة أنّهما يشكلان روحه الثقافية وهويته الإنسانية الزاخرة التي تنبئ عن شخصية متفردة وفذة. عائلات شعرية كثيرة طفح بها الجبل العاملي، فمن يرد الاستعلام أكثر عن علمائها وشعرائها، فليراجع في محله. نأتي على ذكر السيد محمد جواد فضل الله نجل المجتهد السيد عبد الرؤوف وشقيق المرجع السيد محمد حسين فضل الله. هذا العالم الشاعر ترعرع في بيت علمي يتنفس شعراً، فوالده فقيه شاعر وكذلك أخوه وعمّاه وجده... ترك مجموعة كتابات أدبية واجتماعية مخطوطة، وأصدر عدداً من المؤلفات من بينها: «الإمام الصادق»، و«صلح الحسن»، و«الإمام علي الرضا»، و«حجر بن عدي».
وفاته المفاجئة في ريعان الشباب، لم تمنع من أن تتمظهر تجربته الشعرية في بواكيرها الأولى، راسمةً ملامح فنية خاصة ودالة على شعرية مرهفة، وصفاء قريحة، واختمار وجدان.
تفوّه بالشعر وهو في العاشرة من عمره في مجالس النجف، ولاقى ذلك استحساناً في بيئة كانت لا تحبّب الشعر كفن يصدر عن طالب الفقه والأصول والعقيدة، إذ مركزية الفقه والأصول في هذه البيئة الدينية هو الأنسب في رأيها، وارتباط قول الشعر هو بالمثقف العادي الذي ليس بالضرورة أن يكون متديناً.
فلسطين ساكنة بقوة في وجدان العامليين ما غابت يوماً عنهم
توزّع شعره بين السياسي والوجداني والديني، فمن شعره السياسي قصيدة «يا قدس» التي جاء في مطلعها:
للقدس في قلب كل ثائر نار
يلظى بها في جحيم النقع ثوار
أم المآسي بما عانت وما حملت
فجرحها بدم الأحرار فوار
تلتاع من دنس الأرجاس يثقلها
من ريبه نزق جلف وأكدار
أرض السلام غدت للحرب منطلقاً
يثيرها بسعار الغدر فجار
يا قدس... يا دمعة المأساة تذرفها
منا قلوب مروعات وأبصار
هل بعد يومك أرض تستريح بنا
وهل تطيب هوايات وأسمار
والحرب أهون أعباء وإن ثقلت
منها على المجد أعباء وأخطار».
فلسطين ساكنة بقوة في وجدان العامليين ما غابت يوماً عنهم، فنجد قصيدته الأخرى بعنوان «يا فلسطين المسلوبة والجريحة» إذ توطنت في قلب الشاعر، لافتاً إلى ما تعرضت له من خذلان وغدر إذ ضيّعوا حقها في الحياة والوجود داعياً أهلها إلى الثورة والنهوض واستعادة المجد والحقوق:
«يا فلسطين... وهل يحلو لنا
بعد أن ضرجك العار غناء
لم نزل نلعق من آلامنا
ما به يصعب للجرح شفاء
خدعوها أمة ما نكبت
لو رعى درب علاها الأمناء
يا فلسطين ولا يجدي البكاء
فثبي يحتم للنصر قضاء
عبئي منا القوى والتحمي
بالمنايا الحمر وليصمد إباء».
في شعره لغة طيعة ورشاقة جلية يرشح منها صفاء نفس وانسياب شعور يعتصر تجربة ذات مشتعلة في وجدانية متفردة تواجه الغربة بشوق فوق شوق ملؤه التحدي، من قصيدته الوجدانية:
ذكرياتي هبي على خاطري
رحماك فالليل في مداي شديد
وأعيدي عليّ من صور الماضي
أماس غشت رؤاها العهود
فأنا ها هنا بمنآي قلب
موحش يستبد فيه الشرود
إن من يطلب العلا لم يضره
لوعة مرة وجهد جهيد».
وله قصيدة رقيقة بعنوان «خيال الأم» تنضح بالمعنى المنبجس عاطفة جياشة:
«خيالك يا أم في مقلتيَّ
طيوف تهز بقلبي الشبابا
وتلهب فيَّ اختلاج الحنين
فيغتصب الدمع عيني اغتصابا
ولم لا وأنت ضمير الحياة
تفجر في جانحي التهابا
فكم نظرة لي من مقلتيك
بها الحب غنى اللحون عذابا».
شعره على قلته حوى رقة الألفاظ وحلاوة المعنى، فأنت أمام حذاقة الكلام الذي يغازل العفوية التي تستفز مشاعر الناس حتى يتنبهوا إلى واقع حالهم، فمن لا تهزه الكلمة ولا تحركه، ففي ذلك تحدٍ كبير وواقع خطير يلفه.
محمد عبدالله فضل الله